يسئلونك عن ... الأسئلة المطروحة على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فى القرآن الكريم

اشارة

عنوان و نام پديدآور:يسئلونك عن ... الاسئله المطروحه علي النبي الاكرم صلي الله عليه واله و سلم في القرآن الكريم/ اعداد ابو القاسم عليان نجاري ؛ تعريب علي فخر الاسلام .

مشخصات نشر:قم: دارالنشر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، 1431ق= 1389.

مشخصات ظاهري:212ص.

فروست:سلسله البحوث التفسيريه لآيه الله العظمي مكارم الشيرازي ( دام ظله )

وضعيت فهرست نويسي:در انتظار فهرستنويسي (اطلاعات ثبت)

يادداشت:الطبعه الاولي

يادداشت:عنوان ديگر : ويسالونك عن ... الاسئله بحوث ...

شماره كتابشناسي ملي:2282704

ص: 1

التمهيد:

إنّ مجموعة البحوث التي بين يديك، أيها القارئ العزيز، حصيلة سلسلة أحاديث ألقاها سماحة المرجع الديني الكبير، المفسر المبدع للقرآن الكريم، سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله العالي) في صحن الإمام الخميني (قدس سره) من حرم مقام كريمة أهل البيت عليهم السلام السيدة المعصومة عليها السلام بعد صلاتي الظهر والعصر شهر رمضان المبارك في عام 1428 ه-، أمام حشد كبير من الصائمين المتعطشين للانتهال من نمير المعارف الإسلاميّة الأصيلة، حيث تمّ تنظيمها وتصحيحها وتنقيحها، وذكر مصادرها ومنابعها، وحذف المكرّرات منها وتوضيح المجمل فيها، لتظهر هذه المجموعة بعنوان (أسئلة قرآنية).

تتمحور مباحث هذا الكتاب، كما سيأتي، حول تلك المجموعة من الأسئلة القرآنية التي تبدأ بقوله تعالى: (يسألونك) حيث تدور حول اثني عشر موضوعاً؛ تسعة منها قام سماحته بالبحث حولها خلال شهر رمضان المبارك المنصرم، أمّا الثلاثة الأخرى فلم تتسنَّ الفرصة لطرحها في ذلك الشهر الكريم، لذا تمّ اقتباس مواضيعها من تفسير (الأمثل) بعد إجراء بعض التعديلات عليها بما يناسب المقام، سائلين المولى الكريم الفائدة منها للقارئ الكريم، وراجين تعالى أن تكون زاداً لذلك المرجع الكبير، والمعدّ الفقير، في مسير الآخرة.

إلهي لك الحمد على هذه التوفيقات التي مننت بها عليَّ، وأسألك أن تزيدها يوماً بعد يوم، حتى نخطوَ في سبيل رضاك خطوات على الطريق الصحيح وإن كانت صغيرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أبوالقاسم عليان نجادي

المصادف يوم ولادة السيدة زينب الكبرى بنت علي (عليهما السلام)

ص: 2

المقدّمة:

اشارة

كما جرت العادة كل عام في شهر رمضان المبارك، شهر نزول القرآن الكريم، فقد وفقنا الله عزّ وجلّ كذلك هذا العام (1386 ه-. ش) للبحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

موضوع بحثنا في هذا العام، 1428 ه-، يتركز حول الأسئلة والأجوبة القرآنية، ولكن قبل الدخول إلى أصل البحث، ودراسة الآيات القرآنية المتعلقة به، من الضروري التمهيد له بمقدمات لازمة:

أ) أية أسئلة؟

في القرآن الكريم أسئلة كثيرة، وردت بألفاظ وعبارات مختلفة، وليست جميعها موضوع بحثنا، بل تلك الأسئلة التي بدأت بقوله تعالى:

يسألونك

. من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم خمس عشرة جملة تبدأ بقوله تعالى: (يسألونك)، حيث يذكر فيها تعالى الأسئلة التي وجّهها الناس إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ومن ثم ينقل أجوبتها، وتدور تلك الآيات الخمس عشرة حول اثني عشر موضوعاً، هي:

1. الهلال: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: خلق القمر، والتحولات التي يمرّ بها، وقد ورد هذا الموضوع في الآية (189) من سورة البقرة.

2. الإنفاق: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: موارد الإنفاق، ومصادره، ومستحقيه، وقد ورد هذا الموضوع في الآيات (215- 219) من سورة البقرة أيضاً.

ص: 3

3. الأشهر الحرم: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: ما حكم القتال في هذه الأشهر؟ وقد ورد هذا الموضوع في الآية (217) من سورة البقرة.

4. الخمر والميسر: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: ما حكمهما؟ وما آثارهما السلبية؟ وقد ورد هذا الموضوع في الآية (219) من سورة البقرة.

5. الأيتام: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: كيفية التعامل مع هذه الفئة المحرومة من المجتمع، ويعدّ من المواضيع المهمة التي سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله عنها، وذكر تعالى السؤال والجواب المتعلقين بهذا الموضوع في الآية (220) من سورة البقرة.

6. الأطعمة المحلَّلة: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: المعايير الواجب توافرها في الأطعمة المحللة، وأحكامها، وقد ورد هذا الموضوع في الآية (4) من سورة المائدة، إذ يعتبر من الموضوعات التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله.

7. يوم القيامة وأوانها: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: متى تقوم الساعة؟ حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله يُسأل عن هذا الموضوع، وقد تكفلت الآية (187) من سورة الأعراف، وكذلك الآية (42) من سورة النازعات بالإجابة.

8. الأنفال: وتطرح فيها أسئلة من قبيل: حكم الأنفال وتوزيعها وما يتعلق بها، وقد ورد هذا الموضوع في الآية الأولى من سورة الأنفال.

9. الروح: وهو موضوع آخر، كانت تدور حوله أسئلة الإنسان واستفساراته في ذلك العصر، وفي كل عصر، وقد ورد هذا الموضوع في الآية (58) من سورة الإسراء.

10. المحيض (العادة الشهرية عند النساء): وتطرح فيها أسلة من قبيل: حكم مقاربة الزوجة في عادتها الشهرية، وقد ورد هذا الموضوع في الآية (222) من سورة البقرة.

ص: 4

11. الجبال: من المواضيع التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد ورد هذا الموضوع في الآية (105) من سورة طه.

12. ذوالقرنين: من المواضيع التاريخية التي تكفلت الآية (83) من سورة الكهف بذكرها.

ب) سعة الأسئلة:

إنّ الأسئلة والأجوبة القرآنية التي تدور حول المواضيع الاثني عشر المذكورة أعلاه، يمكن تقسيمها من زاوية أخرى إلى عدّة مجموعات:

1. مجموعة الأسئلة والأجوبة ذات الجانب العَقَدي.

2. مجموعة الأسئلة والأجوبة ذات الجانب الفقهي، والتي تتحدث حول الأحكام الشرعية، وما يحلّ ويحرم.

3. مجموعة الأسئلة والأجوبة ذات الجانب الأخلاقي، والتي تدور حول المستحبات كالإنفاق والعطاء.

4. مجموعة الأسئلة والأجوبة ذات الجانب التاريخي.

5. مجموعة الأسئلة والأجوبة ذات الجانب الفلسفي.

من تنوع وسعة مباحث هذه الآيات، وتعدد الموضوعات التي تندرج تحتها، يستفاد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان مكلفاً بالإجابة على أي سؤال، وبالتالي فإنّ الإسلام لا يترك سؤالًا بلا جواب.

ولهذا نرى هذا النهج واضحاً في سيرة علماء الإسلام الذين كانوا يتيحون للشباب أن يطرحوا أسئلتهم، لكي يزيدوا معارفهم، إذ منذ اللحظة التي يخرج فيها الإنسان من بطن أمّه يمثل مجموعة من الاستفسارات والمجهولات التي يقوم خلال مسيرة نموه الجسمي والجسدي بتقليل هذه المجهولات عن طريق طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها، مضيفاً إلى معلوماته ومعارفه التي يحصل عليها معارف ومعلومات جديدة.

ص: 5

ج) أهميّة السؤال في القرآن الكريم:

لإدراك أهميّة طرح الأسئلة الهادفة والبحث عن إجابات لها، من منظور القرآن الكريم، يكفي أن نتأمل في الآية الكريمة التي يقول تعالى فيها: ئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (1)، فإنّه، وإنّ فسّرت الروايات (أهل الذكر) بأهل البيت عليهم السلام (2)، ولكن لا شك أنّه ليس منحصراً بأولئك العظماء فحسب، بل فُسِّروا بهم عليهم السلام لأنّهم أكمل الخلق وأعلمهم.

ولا حياء في السؤال، لأنّ عدم المعرفة لا يدعو للحياء، بل إنّ عدم البحث عن الجواب وطرح الأسئلة هو ما يوجب الخجل، وممّا يثير الانتباه أنّ تلك الآية وردت حول علماء أهل الكتاب، وفي ذلك توجيه مهم، إلى ضرورة كسب المعرفة والحصول على المعلومات المفيدة، حتى ولو كانت عند غير المسلمين، إذ يجب طرح الأسئلة عليهم والاستفادة من معلوماتهم.


1- سورة النحل، الآية 43؛ سورة الأنبياء، الآية 7.
2- تفسير البرهان، ج 3، ص 423، ح 6029 وما بعد.

ص: 6

د) السؤال في الروايات:

لقد وردت أحاديث كثيرة تبيّن أهمية طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة لها، يمكن الاكتفاء بنموذجين منها:

1. قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

العِلْمُ خَزَائِنُ، وَمِفْتاحُها السُّؤالُ، فاسأَلُوا يَرْحَمكُمُ اللهُ، فإنّهُ يُؤجَرُ فِيهِ أربَعة: السَّائِلُ، وَالمُعَلِمُ، وَالمُستَمِعُ، وَالمُحِبُّ لَهُم

(1).

2. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

سَلُونِي قَبلَ أنْ تَفْقِدُونِي فلأنَا بِطُرِقِ السَّماءِ أَعلَمِ مِنِّي بِطُرِقِ الأَرضِ

(2).

3. وقد ورد في نهج البلاغة عنه عليه السلام:

(وَلا يَسْتَحِينَّ أحدٌ إذا لَم يَعلَم الشَّي ء أنْ يَتَعَلَّمَهُ

(3).

وقد ورد في حديث، أنّ الحياء قسمان؛ أحدهما معقول والآخر قبيح (4)، فالأوّل يستعمل عندما يواجه الإنسان المعاصي والذنوب، فليجأ إلى هذا السلاح حياءً من الله عزّ وجلّ ومنعاً عن ارتكاب المعاصي، وهذا النوع من الحياء باعتباره نوعاً من اجتناب المعاصي والذنوب ممدوح ومقبول، أمّا الحياء القبيح، فيتمثّل بالحياء في طرح الأسئلة لكشف المجهولات ورفع الغوامض، إذ يجب أن يكون الإنسان شجاعاً وجريئاً في طرح الأسئلة، متخلياً عن الحياء والخجل في ذلك، ولا يكتفي بطرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة لنفسه، بل ينبغي عليه أن يشجع الآخرين في هذا المجال.

وفي هذا السياق ننقل قصّة عظيمة المغزى، وبليغة العبرة، إذ يروى أنّه حين عزم أمير المؤمنين علي عليه السلامللخروج إلى القتال تقدّم إليه شخص، وسأله سؤالًا معقّداً في التوحيد، وقال له: (ما معنى أن يقال إنّه تعالى واحد؟ هل واحد ليس باثنين، أو أنّ لوحدانيته تفسيراً آخر؟

فاعترض بعض أصحابه عليه السلامعلى هذا الشخص بحجّة أنّ الظرف ليس مناسباً لطرح مثل هذه الأسئلة أو الإجابة عليها، فالوضع وضع قتالي وحربي.


1- ميزان الحكمة، ج 4، باب 1702، ح 8040.
2- المصدر السابق، 1705، ح 8058.
3- نهج البلاغة، الكلمات القصار 82.
4- ميزان الحكمة، ج 2، باب 992، ح 4577.

ص: 7

فأجاب عليه السلام: (أليس قتالنا لإيقاظ الناس وتوعيتهم، إذاً فما المانع من الإجابة على سؤال هذا الشخص)، ثم أجاب على سؤال ذلك الشخص بشكل مفصّل ودقيق (1).

نستنتج من ذلك كلّه: لقد أولى الإسلام لطرح الأسئلة المناسبة والبحث عن إجابة لها أهميّة كبرى، وفتح الباب واسعاً على مصراعيه أمام طرح الأسئلة في مختلف المواضيع، ولم يقبل أي خجل أو حياء في هذا الإطار.

بعد بيان هذه المقدمات القصيرة سنقوم فيما يلي بالبحث في أول سؤال وجواب قرآني ضمن بحوثنا التفسيرية:


1- المصدر السابق، ج 6، باب 2628، ح 12356.

ص: 8

1- الهلال

اشارة

إنّ أوّل سؤال مطروح يتمحور حول الهلال حيث يبدأ القمر أوّل الشهر هلالًا رقيقاً خافتاً، ومن ثم يأخذ بالإضاءة والكبر بمرور الليالي، حتى يكمل بدراً في الليلة الرابعة عشرمن الشهر القمري، ومن ثم يعود بعد الليلة الخامسة عشر بالخفوت والرقة تدريجياً، بحيث يصبح في الليالي الأخيرة من الشهر كحالته في الليالي الأولى منه خافتاً رقيقاً، فما الحكمة من هذه التحولات التي تطرأ على الهلال؟

لقد وردت الإجابة على هذا السؤال في الآية (189) من سورة البقرة، حيث يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

عمَّ يدور السؤال؟

لقد ذكر المفسّرون حول أصل السؤال احتمالين:

1. إنّ السؤال ليس عن الأحكام الإلهيّة، بل عن التغيرات والتحولات التي تطرأ على القمر.

2. السؤال عن حكمة خلق القمر.

الجواب:

نعلم أنّ القمر لا يصدر نوراً، بل يتلقى نوره من الشمس، ويعكسه نحو الأرض، ولهذا نرى أنّ وجه القمر الموجّه للشمس يكون مضيئاً على عكس الوجه الآخر الذي يكون مظلماً.

ص: 9

يدور القمر حول نفسه مرّة كل شهر (30 يوماً)، لذا يكون قسم رقيق منه في البدايةمضاءً، ومن ثم يأخذ هذا القسم بالتوسع بالتدريج حتى منتصف الشهر، فيصبح مضاءً بشكل كامل، ومن ثم تأخذ إضاءته بالخفوت تدريجياً، وبالتالي نلاحظ تلك التغيرات التي تطرأ على سطح القمر نتيجة دورانه حول نفسه طوال شهر.

ويذكر تعالى في جواب السؤال المطروح عن الهلال ما يلي: إنّ القمر يمثّل تقويماً طبيعياً ينظم حياة الناس، معلّقاً في كبد السماء، حتى يستفيد منه كل إنسان على هذه البسيطة، في أية نقطة منها، مهما اختلفت مستوياته العلمية والمعرفية والإدراكية، ليمنح حياته التنظيم والدقّة بناءً على هذا التقويم الطبيعي.

قد تقوم الشمس بهذا الدور أيضاً، ولكنّها تختلف عن دور القمر، إذ لا يمكن معرفة التاريخ عبر التحديق في السماء بالنظر إلى الشمس، ولكن يمكن ذلك بمراقبة القمر وحالته.

لقد خُلق هذا التقويم الطبيعي لهدفين مهمين هما:

1. إيجاد حالة من التنظيم والبرمجة في حياة الإنسان، لأنّ الحياة بدون التنظيم مصدر لكل إخفاق وفشل، ولهذا خلق الله القمر حتى يقوم الإنسان بأعماله على أساس برنامج خاص وتنظيم دقيق.

2. إنّ العبادات الدينية تؤدى وفقاً لهذا التقويم الطبيعي، إذ بظهور الهلال ورؤيته تبدأ غرّة الشهر القمري، فيقوم المسلمون بأداء فريضة الصوم في شهر رمضان، وبطلوع الهلال ورؤيته يؤذن بانتهاء شهر رمضان، وحلول عيد الفطر المبارك، حيث يحرم الصوم في هذا اليوم، ومع مرور تسعة أيّام من شهر ذي الحجة يتوجّه الحجاج إلى عرفات ومن ثم يفيضون في اليوم العاشر من ذلك الشهر نحو منى، حيث يؤدون شعائر خاصة فيه، وبعد انقضاء اثني عشر يوماً من هذا الشهر يعود الناس إلى مكة المكرمة ليؤدوا شعائرهم هناك.

وبالتالي فإنّ وجود هذا الهلال يمنح حياتنا الطبيعية والعادية نظماً، كما نستفيد منه لأداء أعمالنا الدينية وعباداتنا الشرعية وفق هذا التقويم الطبيعي.

سبب نزول هذه الآية:

ذكر كبار المفسّرين أسباباً مختلفة لنزولها، حيث نقل عدّة منهم أنّ جماعة من اليهود طرحوا هذا السؤال على رسول الله صلى الله عليه وآله طالبين منه توضيح حكمة التحولات التي تطرأ على القمر طوال الشهر (1)، ولكن بنظرنا، ليس المهم معرفة هوية السائل، مسلماً كان أو غيره، بل المهم معرفة الجواب الذي ذكره الله تعالى في الردّ على هذا السؤال، فبيّن حكمته من ذلك عبر إخضاع شؤون حياتنا الطبيعية والعادية، وكذلك أمورنا العبادية والشرعية كالحج والصوم وأمثالهما للنظم والبرمجة.

من المثير للانتباه أنّ الله تعالى قد أشار في ذيل هذه الآية إلى مسألة تمثّل نموذجاً للفوضى الذي كان يحكم حياة الناس في الجاهلية، إذ لم يبق في ذلك العصر إلّا نزر يسير من آثار الحج الإبراهيمي، خليطاً مع الخرافات والخزعبلات منها ما ذكر في ذيل هذه الآية أنّهم عندما كانوا يرتدون لباس الإحرام لم يكونوا يدخلون البيت من بابه، بل كانوا يدخلون من نقب يحفرونه خلف البيت ليعبروا منها كالحيوانات (2).

وقد ذمّ القرآن الكريم هذه الفوضى، ولم يعتبره علامة للبر والإحسان، وأمرهم بالدخول من باب البيت كالمعتاد والمألوف قبل الإحرام.


1- مجمع البيان، ج 2، ص 27.
2- تفسير الصافي، ج 1، ص 248.

ص: 10

ادخلوا البيوت من أبوابها:

يستفاد من ذيل هذه الآية أنّ لكل عمل طريقاً صحيحاً لإنجازه، وهذا ما ينطبق على كافّة أعمالنا، سواء ما تعلق منها بأمر دنيانا أو آخرتنا، إذ لكل منها سبيل صحيح ومعقول يجب الدخول فيه والسير عليه حتى نصل إلى النتيجة المطلوبة، وقد أشارت بعض الروايات إلى ذلك عندما فسّرت البيوت في الآية بالإسلام، وأبوابها بالأئمّة المعصومين عليهم السلام (1)، إذ الدخول إلى بيت الإسلام والحصول على المعرفة السليمة والصحيحة عنه، لا يمكن أن يتحقق إلّا من طريقه الصحيح، أي معارف أهل البيت (عليهم السلام)، ولهذا لا قيمة أو وزن لتلك الادّعاءات التي تثار من حين لآخر، من هنا وهناك، من قبل بعض المخادعين الذين يدعون الناس إليهم، محلِّلين حرام الله، ومحرِّمين حلاله، مخالفين الآية الكريمة، فتتضح عند ذلك مهمة الفقهاء والمراجع العظام الذين يدعون الناس إلى تقليدهم كنواب للإمام الحجّة عليه السلام، حيث يقومون بذلك بناء على ذلك التكليف الشرعي الجسيم الملقى على عاتقهم.


1- البرهان في تفسير القرآن، ج 1، ص 408.

ص: 11

نموذج أرقى للنظام:

إنّ القرآن الكريم يعطينا في هذه الآيات دروساً في النظم والانضباط، لأنّ هذا الأمر ليس محصوراً بالقمر والشمس فحسب، بل إنّ الكون كله يدور حول محور النظم، فالشمس والقمر وسائر كواكب المجموعة الشمسية، كلٌّ يسير في مسار دقيق وحركة منتظمة، طوال ملايين السنين- في ظاهرة للنظم تسحر الألباب- لا يشوبها أيّ خلل أو انحراف ولو للحظة واحدة.

لولا هذه النظم لما استمرت هذه الحركات، فالنظم يحكم الكون كله، وهو قائم به، وإن انتقلنا من العالم الأكبر إلى العالم الأصغر، أي عالمنا الداخلي، نلاحظ أنّ نظام الجسد قائم على النظم والانضباط.

فعلى سبيل المثال، يتألف دمنا من أكثر من عشرين مادة، لكل منها مقدار معيّن، بحيث إذا زادت عنه قليلًا أو نقصت، فإنّ ذلك يؤدي إلى إصابة الإنسان بأمراض مختلفة، وقد بلغ تركيب الموادّ المكوّنة للدم في جسم الإنسان حدّاً من الدقّة والضبط، بحيث يمكن تشخيص جذور الاضطرابات التي يعاني منها جسم الإنسان وكذلك الآلام الأخرى، عن طريق تحليل الدم.

ولدموع الإنسان حالة مشابهة لدمه من حيث الدقّة والتركيب والنظم التي تحكم المواد المكونة لها.

ص: 12

فكلّ العوالم، النباتية، الحيوانية، بل حتى داخل الذرات، محكومة بالنظم والانضباط، لذا يعدّ البرهان بالنظم من أهم دلائل التوحيد ومعرفة الخالق، إذ إننا لا نراه تعالى، ولكن آثار النظم والانضباط الحاكمة على الكون كلّه حاكية عن قدرته وحكمته وعلمه، وكلها دالة على وجوده.

يقول الشاعر الفارسي:

أرى مظهرك في كل ما تقع عليه عيني لقد انحنت كل الوجوه لعظمتك مطأطئة

ونقرأ لآخر:

كل نبات ينمو من الأرض يُسبّح بحمدك قائلًا: وحدك لا شريك لك

ص: 13

النظم في القرآن الكريم:

ورد هذا الموضوع في آيات متعددة من القرآن الكريم، حيث نشير إلى نموذج منها في الآيات (من 38 إلى 40) من سورة يس:

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ حيث تعتبر هذه الآيات من المعجزات العلمية للقرآن الكريم، إذ ذكر تعالى وصفاً لحركة الشمس والقمر بقوله: (يَسْبَحُونَ)، لندرك عظمة تلك المعجزة عندما نعلم بأنّ علم الفلك السائد في ذلك العصر كان يقوم على نظرية بطليموس القائل:

(إنّ الشمس والقمر وباقي سيّارات المجموعة الشمسية ثابتة في فضاء بلّوري، ليست لها حركة مستقلة، بل إنّ ذلك الفضاء البلوري يتحرك، فتتحرك وفقه القمر والشمس كذلك).

لقد أثبت العلم الحديث بطلان نظرية بطليموس الفلكية، في حين كان القرآن الكريم قد أبطلها قبل 1400 سنة، وذكر أنّ لكلّ من القمر والشمس حركة مستقلة في مسيرهما.

وفي الآية (26) من سورة الروم، عندما يشار فيها إلى نظام الكون، نقرأ قوله تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

ص: 14

من خصائص الرياح:

إنّ للرياح خاصيتين مهمّتين لا تتحقان إلّا في ظلّ النظم والترتيب وهما:

1. إنّ الرياح تجمّع الغيوم المتفرقة، مشكِّلة بحراً من المياه في قلب السماء فوق رؤوسنا، ثم ترسل هذه المياه بأمر الله تعالى نحو الأراضي القاحلة والمتعطشة للمياه، وتقوم الغيوم في تلك المناطق بدور شبكات الري بالتنقيط عبر سقوط زخات من المطر، مخففة بذلك الأضرار على سطح الأرض التي تنزل عليها.

ألا يعدّ التبخير وتصعيد الماء من البحار إلى السماء من آثار قدرة الله؟

ألا يعتبر حفظ بحر من المياه في السماء فوق رأس الإنسان عملًا جباراً؟

ألا يشكل إرسال الغيوم إلى الأراضي القاحلة، وإنزالها إلى الأرض بشكل قطرات من المطر من آثار عظمة الله؟

ألا تعتبر تلك الأمور ممّا لا تتمّ إلّا في ظلّ النظم والانضباط؟

2. أما الخاصية الأخرى للرياح، لا سيما في تلك العصور القديمة التي لم يكن الإنسان قد اكتشف طاقة البخار بعد، تتمثّل في تحريك السفن بواسطة الرياح المنظمة في البحار، حيث يقوم ملّاح السفينة بالاستناد إلى المعلومات والاطلاعات الكافية عن زمن هبوب الرياح، بوضع الأشرعة في مسير تلك الرياح، حتى يصل بالمسافرين والبضائع إلى مقاصدها، فلولا النظم الحاكم على هبوب الرياح، لما أمكن الاستفادة من السفن الشراعية في ذلك.

ص: 15

نحن والنظم:

إننا نعتبر جزءً من هذا العالم الواسع والكبير، نلاحظ النظم السائد على كل أجزائه، فهل نستطيع العيش خلافاً للنظام الحاكم على الكون بدون مراعاة النظام والإنضباط في حياتنا؟ إذا لم نحكّم النظم على حياتنا ألا نصبح عند ذاك تنوءاً نافراً في هذا المسير الدقيق؟، وبالتالي سوف نكون محكومين بالفناء؟

إنّ إحدى حالات الفوضى التي نلاحظها في حياة بعض الأفراد، يتمثّل في عدم تنظيم ساعات النوم واليقظة، حيث جعل الله تعالى النهار للعمل والنشاط، كما ورد في القرآن الكريم، وسخّر الليل للراحة والنوم (1)، ولكن، للأسف نلاحظ أنّ بعض الناس، وخلافاً لهذا القانون يسهرون حتى طرف الليل، وهذه الفوضى وعدم البرمجة بين النشاط والراحة، مصدر للكثير من المشاكل والأمراض.

لِمَ لا نلاحظ النظام حاكماً على المؤسسات والإدارات في الحكومة الإسلاميّة، إذ نواجَه بعدم حضور الموظف إلى مكان عمله، على الرغم من مرور ساعة أو ساعتين على الوقت المحدَّد لبداية الدوام، وهذا الأمر ينطبق على رئيس المؤسسة كذلك؟

طبقاً للإحصاءات الصادرة من مديرية توجيه الطرق وإدارة المرور في بلدنا، يعدّ هذا البلد من البلدان التي تعاني من أكثر نسب حوادث السير في العالم، حيث يصل عدد الإصابات الناتجة عن حوادث السير 27 ألف شخص سنوياً، في حين إنّ أمريكا فقدت في حربها في العراق طوال أربع سنوات أربعة آلاف شخص فقط، نعم إننا نفقد من الأفراد سنوياً بمقدار أربعة أضعاف خسائر حرب ما، بسبب الفوضى وعدم الانضباط في استخدام وسائل النقل، وعدم مراعاة القوانين والمقررات الناظمة للسياقة والتوجيه في الطرقات.

إنّ الفوضى وعدم الانضباط الحاكم على سير وحركة الدراجات النارية، والضرب بعرض الحائط لقوانين وضوابط السير والسياقة من قبل بعض سائقي الدراجات النارية، وسوء استعمالهم لهذه الوسيلة، أدى إلى خسائر لا تعوّض مادية ومالية، وفي الأرواح، بالإضافة إلى سلب الأمان في حركة وسائل النقل، حتى دعا بعض الشعراء المعاصرين اعتبار هذه الوسيلة زميلًا بل منافساً لعزرائيل في عمله.


1- انظر: سورة يونس، الآية 67.

ص: 16

بل والأهم من ذلك هو اعتلال النظام الاقتصادي لعالمنا المعاصر، حيث تتركز 80% من الثروة في يد 20% من الناس، في حين تتركز 20% الباقية في يد 80% منهم، وهذا التقسيم غير العادل وغير المنطقي للثورة والمصادر المالية، نتيجة الفوضى الاقتصادية، وعندما تقرر الحكومات تسليم ثروات الدولة إلى القطاع الخاص، فإنّ هذه الفئة القليلة من 20% من الأثرياء يقومون بالاستيلاء عليها.

من هنا يشعر الإنسان بكامل وجوده بضرورة سيادة النظم والانضباط على كل شي ء، بل إنّ النظم والانضباط حاكم على فرائضنا العبادية، بحيث لا تقبل الصلاة إذا أقيمت قبل دقيقة من وقتها أو بعد دقيقة بعد انقضاء وقتها، وما دام الناس لا يعتقدون من أعماق وجودهم بهذا القانون الإلهي فإنّهم لن يستطيعوا حلّ مشكلاتهم لا بواسطة الشرطي أو المحكمة أو العقوبة أو السجن.

وكونوا على ثقة بأننا لن نبلغ أي مرتبة أو منزلة بدون انتظام وانضباط، كما أننا نصل إلى كل ما نريده في ظل النظم والانضباط.

ص: 17

النظم في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:

حضر رسول الله صلى الله عليه وآله تشييع جنازة سعد بن معاذ، وبعد القيام بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه وتلقينه، وُضع حجر اللحد، وألقي بالتراب من أطراف القبر في داخلها ولما رأى صلى الله عليه وآله عدم التناسق في ترتيب القبر وتنظيمه قام صلى الله عليه وآله بالانحناء وإصلاح سطح القبر بيديه المباركتين، وقال:

إنّ اللهَ يُحِبُّ إذا عَمِلَ أحدُكُم عَملًا أنْ يَحْكِمَهُ

(1).

نعم، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي أهميّة في ترتيب قبر ميت، فكيف يمكن لبعض المنتفعين أن يقوموا ببناء شقق سكنية في أبنية من عدّة طوابق بمواد بناء سيئة وضعيفة، وإسكان الناس فيها، وتعريض أرواحهم للخطر، بحيث يؤدي إغلاق باب شقة ما أو غرفة فيها إلى سقوط حائط المنزل بكامله.


1- وسائل الشيعة، ج 2، ص 889، ح 3.

ص: 18

النظم في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام:

ولقد وجّه الإمام علي عليه السلاموهو في لحظات الشهادة وفي الساعات الأخيرة من عمره الشريف خطاباً لولديه الإمامين العظيمين الحسين والحسين (عليهما السلام) وباقي أبنائه وأفراد عائلته وأقربائه، وكلّ من وصلته وصيّته، بالدعوة والوصية بمراعاة النظم، حيث قال عليه السلام:

أوصِيكُما وَجَمِيعَ وُلدي وأهلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتابِيِ بِتَقوى اللهِ وَنَظْمِ أَمرِكُم

(1).


1- نهج البلاغة، الرسالة 37.

ص: 19

تخلف المسلمين:

هنا يطرح هذا السؤال:

لماذا تخلّف المسلمون في كثير من الأمور عن الآخرين، الذين يتطورون كل يوم أكثر فأكثر، على الرغم ممّا نلاحظه من توجيهات وأوامر راقية وردت في القرآن لكريم وسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وكلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلاموباقي المعصومين الأطهار (عليهم السلام)؟

إنّ الجواب على ذلك واضح، يكمن في أننا نحن المسلمين لم نعمل بتلك الأوامر والتوجيهات الراقية والمنقذة، في حين قام الآخرون بالعمل بها فساروا في طريق الرقي والتكامل، فلو عمل المسلمون بهذه التوجيهات بنية خالصة، منها الالتزام بالنظم والجدّ والإخلاص في العمل، لكنّا بلا شك في وضع أفضل.

ص: 20

2- الإنفاق

اشارة

إنّ السؤال القرآني الثاني الذي سنقوم بالبحث حوله، هو الإنفاق في سبيل الله حيث يمكن البحث حوله ودراسته من زوايا مختلفة، يقول تعالى:

يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (1).

وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (2).


1- سورة البقرة، الآية 215.
2- سورة البقرة، الآية 219.

ص: 21

تفسير إجمالي: ماذا ننفق؟ ولمن؟

يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ جاء رجل من أثرياء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسأله: ماذا أنفق؟ وما حدود الإنفاق؟ وعلى مَن أنفق؟

قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فجاء الجواب على السؤال الأوّل بهذا الشكل: كل أمر خير قابل للإنفاق، لذا لا حدود في الإنفاق، فهو يشمل: المال والثروة، الأملاك والعقارات، الكتاب والمؤلفات، إعداد الوسائل اللازمة لتحرير السجناء الأبرياء،

تهيئة جهاز للفتيات وهنّ على أعتاب الزواج، أداء ديون المدينين، نشر العلم والمعرفة، بذل الجاه لحل المشكلات، بذل الوقت والجهد لمنع انهيار الحياة الزوجية بين الزوجين، بناء المساجد وعمارتها، وكذلك الحسينيات والمدارس الدينية وغيرها، والعيادات والمصحّات والمستشفيات و ...، وبالتالي فكلّ عمل خير يدخل في إطار الإنفاق.

وبالتالي، بما أنّ للخير معنىً واسعاً يشمل كافّة الأعمال الحسنة، فإنّ الإنفاق ليس محصوراً بالأمور المالية والمادية فحسب.

وفي الجواب على السؤال الثاني (على مَن ننفق؟) أشار إلى خمس مجموعات هي:

. 1 فَلِلْوالِدَيْنِ إذ الوالدان أوّل مجموعة تستحق الإنفاق، فهما ممن يجب على الأولاد الإنفاق عليهما في حال إذا احتاجا إلى ذلك ولم يقدرا على رفع حاجتهما بأنفسهما، ويلزم على الأولاد، سواء كانوا أبناء أو بنات، كلٌّ على قدر سعته المالية، أن يرفعوا حاجات والديهما المالية، أي كما أنّ الإنفاق واجب على الزوجة والأولاد، فكذلك الأمر في وجوب الإنفاق على الوالدين المحتاجين، إذ هم جميعاً ممن يجب على الإنسان الإنفاق عليهما، فإن كانا ممن يقدرون على تدبير أمورهما ورفع حاجاتهما المادية بالقدر الكافي، فمن اللائق والأفضل الإنفاق عليهما بهدف التوسعة في معيشتهما ومنح مزيد من الراحة والطمأنينة لحياتهما.

. 2 وَالأَقْرَبِينَ إنّ المجموعة الثانية التي أمر الله تعالى بالإنفاق عليها هي الأقارب والأهل، ولا تقتصر صلة الرحم على زيارتهم وتفقّد أحوالهم، بل إنّ رفع حاجاتهم والإنفاق عليهم من مصاديقها.

. 3 وَالْيَتامى فقد كانوا إحدى وصايا رسول الله عليه السلامفي خطبته الشعبانية بالاهتمام بهم، وكذلك نرى تأكيد الباري عزّ وجلّ في هذه الآية الكريمة على الوصية بهم، ولا شك أنّ تقديم المساعدة للأيتام مهم، ولكنه إذا تمّ بشكل مبرمج

ومنظم، كما تقوم بذلك بعض المنظمات التي تأخذ على عاتقها على ذلك عبر دعم المحتاجين بصورة مبرمجة، فإنّ هذا الاهتمام بالأيتام يصبح مفيداً أكثر.

ص: 22

. 4 وَالْمَساكِينِ ويطلق المسكين على المحتاج، الذي يعيش في منتهى العسر والمشقّة، وهو مشتق من (السكون)، لأنّ مثل هذا الشخص بلغ من الحاجة والفاقة حداً لا يستطيع خلالها القيام على رجليه، لشدّة ما أصابه، فكأنّه شلّ ساكناً في مكانه.

. 5 وَابْنِ السَّبِيلِ وهم أولئك المقطوعون في الطريق، والمسافرون المحتاجون المتعفّفون، الذين يشكلون المجموعة الخامسة التي أوصى الباري عزّ وجلّ بالإنفاق عليها، وابن السبيل من فقد ماله وزاده، أو سرقه منه سارق، وبقي بلا زاد أو مال في سفره، محتاجاً للمساعدة والإنفاق من الآخرين، ومن المحتمل أن يكون من الأثرياء في وطنه.

من المفارقة الغريبة أن يقوم شخص بتحمّل مشاقّ السفر ودفع المبالغ الطائلة لزيارة العتبات الطاهرة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أو المعصومين الأطهار عليهم السلام أو أبنائهم، أو بيت الله الحرام، حتى يخفف عن ظهره أعباء الذنوب والخطايا التي تثقل كاهله ويجد وسيلة للتخلص منها، في حين نلاحظ شخصاً فقيراً مسكيناً يمدّ يده للسرقة حتى في تلك العتبات الطاهرة، ليزيد على ذنوبه ذنوباً أخرى، فشتّان بينهما!

وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ثم يبيّن تعالى بأنّه ليس من الضروري أن يكون الناس على اطلاع ومعرفة بإنفاقكم، بل يكفي أنّ الله عزّ وجلّ مطّلع على ذلك وعالم به، فهو عليم بكل ما يعمله العباد.

ص: 23

مقدار الإنفاق:

اشارة

يتضح من التفسير الإجمالي للآية السابقة ما الذي يجب إنفاقه، ومن يستحق الإنفاق، ثم تأتي الآية التالية لتحدد مقدار الإنفاق وكميته كما يلي:

وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ اختلف المفسّرون في تفسير لفظة (العفو)، وسنشير إلى ثلاثة موارد مهمة لها:

1. التوازن في الإنفاق ... لا إسراف ولا تبذير:

1. التوازن في الإنفاق ... لا إسراف ولا تبذير (1):

استعدّ رسول الله صلى الله عليه وآله لصلاة الظهر في منزله ليتوجّه نحو المسجد للصلاة بالمسلمين، فانتظره المسلمون لكنّه تأخر ولم يأت، فتبيّن أنّه صلى الله عليه وآله كان قد غسل أحد ملابسه، ونشره ليجفّ، وأعطى لباسه الآخر لمحتاج طرق باب منزله طالباً المساعدة، فلم يبق له ما يلبسه للتوجّه إلى المسجد، عند ذلك نزلت الآية (29) من سورة الإسراء عليه: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (2).

لا ريب أنّ أغلب الناس لا يبالغون في الإنفاق، لذا فهم ليسوا بحاجة إلى نصح، ولكنهم مصابون بالبخل والتقصير في الإنفاق، ويتردّدون حتى بدفع مبلغ قليل من المال، وبناءً على هذا التفسير فالآية الشريفة لا تحبّذ البخل في الإنفاق ولا المبالغة فيه، بل توصي بالاعتدال في الإنفاق.


1- مجمع البيان، ج 2، ص 82.
2- انظر: التفسير الأمثل، في ذيل الآية المذكورة.

ص: 24

2. العفو:

إنّ الاحتمال الآخر الذي ذكرناه للعفو في تفسيرنا (الأمثل)، ولم يشر إلى هذا المعنى أيٌّ من مفسّري الشيعة أو السنّة، هو المعنى اللغوي للعفو، أي إنّ أحد مصاديق الإنفاق وموارده يتمثل بالتغاضي عن الأخطاء التي تصدر عن الآخرين، والعفو عنها والتجاوز عن أي قصور أو تقصير يبدر منهم، وهذا أعلى درجات الإنفاق.

لو اعتاد المسلمون هذا النوع من الإنفاق لحلّت كثير من مشاكلهم، وأقفلت

العديد من ملفات نزاعاتهم، وهل فكرتم مرّة في سبب ارتفاع نسب الطلاق في مجتمعاتنا؟

عندما ندرس ملفات الطلاق، نلاحظ أنّ بدء الاختلافات والنّزاعات تنشأ من أمور صغيرة جدّاً وتافهة، فلو بادر المخطئ بالإعتذار عن خطئه، وقبل الطرف الآخر ذلك وتجاوز عنه، أو عفا عنه، لوئدت المشكلة في مهدها، ولكن، للأسف فإنّ الإصرار والمكابرة والغرور لا تدع مجالًا للمخطئ بتقديم الاعتذار، كما أنّ نزعة الانتقام وقصر النظر وضيق الصدر لا تعطي مجالًا للطرف الآخر بالعفو والمسامحة، وبالتالي فإنّ المشكلة علاوة على عدم حلّها، تتفاقم يوماً بعد يوم، حتى تنتهي بالطلاق والانفصال، التي لها آثار سيئة على الزوجين، وأولادهما، وأقربائهما، والمجتمع كلّه، حيث سنشير إلى بعض هذه الآثار فيما يلي:

أ) الانكسار النفسي والروحي الذي يسيطر على الزوج والزوجة المطلقين، والذي قد يرافقهما طوال حياتهما، حاملة معها الكثير من الآثار السيئة.

ب) مواجهة المطلَّقين في تجاربهما الزوجية الأخرى لمشكلات عديدة، إذ عندما يتقدم الرجل المطلق للزواج من امرأة ما، عندها يتساءل أهل تلك المرأة، والمرأة نفسها حول السبب الذي دعا هذا الرجل لتطليق زوجته السابقة، وما هي الصفات غير المناسبة التي يحملها ذلك الرجل لتدفعه للقيام بهذا الأمر البغيض؟ وما الذي يضمن عدم تكرار هذا الأمر في هذه التجربة الجديدة؟ وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة المطلقة عندما تُطرَح على شخص ما للزواج بها، فإنّه سوف يطرح نفس الأسئلة، وبالتالي فإنّ كلا المطلَّقين سوف يعانيان المشاكل في زيجاتهم الأخرى بعد تجربة الطلاق المرّة.

ص: 25

ج) إذا كان لهذين المطلَّقين أولاد، فلا ريب أنّ مستقبلهم سوف يكون مهدداً بالخطر الشديد، وقد أظهرت الإحصاءات أنّ أولاد المطلَّقين غالباً ما ينجرّون إلى الطرق السيئة، لأنّهم ترعرعوا في أجواء مشحونة سامة، وغالباً ما يكونون حقداء

ومتشائمين ويسعون إلى الانتقام.

د) قد يؤدي طلاق الزوجين إلى نشوء حالة من العداء بين أسرتيهما، إذ يؤدي إنحياز إحداهما إلى أحد طرفي النزاع لبذر بذور الحقد والعداوة بين العائلتين.

أيّها الأعزاء! تخلّصوا من كل نزاع وخلاف يمكن أن ينشأ بينكم، باللجوء للعفو والمغفرة والتسامح، مستلهمين من هذه الآية الكريمة، ولا تسمحوا لهذه النزاعات بالتفاقم، لأنّ تلك القيمة العليا سوف تنفعكم في الدنيا والآخرة.

3. البضائع الفائضة:

3. البضائع الفائضة (1):

طبقاً لهذا التفسير يوصي الباري عزّ وجلّ بعدم تخزين البضائع الزائدة، ولا تكونوا كالذي ينفق عمره في تخزين الأموال، ليتركها لورثته بعد الموت، فيستفيدوا منها ويستعملوها، في حين يجب أن يُسأل عنها، بل يجب إنفاق ما زاد على حاجة الشخص وزوجته وأولاده في سبيل الله.


1- مجمع البيان، ج 2، ص 82.

ص: 26

4. الأشياء الجيدة والنفيسة:

4. الأشياء الجيدة والنفيسة (1):

صحيح أنّه لا إشكال في إنفاق الملابس من الدرجة الثانية، ولكن الإنفاق الحقيقي يتم ممّا يحبّه الإنسان ويفضله، إذ عليه أن يختار منها ما ينفق، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (2) فإن قام الإنسان بالإنفاق من أفضل أمواله وأحسنها، عندها سيخلق نور خاص في وجوده، وتطرأ على قلبه وروحه حالة روحية عجيبة.

وقد كان هذا دأب أولياء الله الذين كانوا ينفقون دائماً من أفضل أموالهم وأنفسها،

حيث تصدّقت الزهراء عليها السلام في ليلة زفافها بلباس الزفاف إلى امرأة فقيرة، ودخلت بيت الزوجية بلباس قديم وعادي بسيط (3).

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ إذ إنّه تعالى يذكر هذه الآيات ويبيّنها لكي تدفع الإنسان للتفكير والتفكّر، ويتحرّر من قيود عبادة المظاهر، وكنز الأموال، ونبذ البخل وترك الإنفاق.

إنّ هناك أشخاصاً يستبقون سفر الآخرة بتهيئة الزاد عبر الآخرين، متمسكين بهذه الآيات والتفكر بها، وقد جاء إليَّ قبل عدّة أيّام شخص وقال لي: أودّ أن أنفق ثلث أموالي في أمور الخير بنفسي قبل الموت، وكانت تعدّ بمليارين ومئتي مليون تومان (4)، فهنيئاً لمثل هؤلاء الأشخاص الذين وُفِّقوا في إنفاق أموالهم في أعمال الخير.


1- المصدر السابق.
2- سورة آل عمران، الآية 92.
3- منتقى الدرر في سيرة المعصومين الأربعة عشر، الشيخ محمد محمدي الاشتهاردي، ص 181، ترجمة الشيخ هاشم الصالحي.
4- حيث تمّ إنفاق هذا المبلغ في شراء أرض لمجمع الإمام الكاظم عليه السلامفي مدينة قم المقدّسة.

ص: 27

هل الثروة جيدة أو سيئة؟

إنّ المال جيد وسي ء! فإن استعمل بشكل سليم، وأنفق ما فاض على حاجة الإنسان في رفع حاجات الفقراء والمحتاجين، كما ذكرنا سابقاً، فهو جيد جدّاً، وإن تحول إلى مسيطر على الإنسان، يسلب إرادته ويخدعه، حتى يصل الأمر بالإخوة والأخوات إلى أن يتنازعوا بينهم على تقسيم إرث أبيهم القليل، أو يقطعوا علاقتهم لسنين طويلة من أجل مال الدنيا، أو يُخرجوا أمّهم من منزلهم على الرغم من وصية أبيهم بها ليقسموه فيما بينهم، فتعساً لهذا المال.

من الممكن للمال والثروة أن يكون سبباً للجنون، كما نرى مجانين الثروة في عالم اليوم، حيث سنشير إلى نماذج منهم:

أ) لقد قام أحد أثرياء أمريكا، ممن يمتلك طائرة خاصة، بتركيب مسبح في طائرته، حتى يسبح أثناء السفر والطيران!

ب) نموذج آخر هو أحد أثرياء الغرب الذي لم يكن يدري ماذا يصنع بأمواله بعد موته، حتى توصل أخيراً إلى حل غريب، بأن أوصى بكل أمواله بعد موته إلى كلبه وقطته اللذين كان يحبهما!

ج) نموذج ثالث لهذا الأمر، غني كان قد سافر إلى مكان ما، وأقام هناك في فندق وبعد عدّة أيّام من إقامته فيه، يسأله مدير الفندق: إلى متى سوف تقيمون في هذا الفندق؟ عندها يغضب هذا الثري من طرح هذا السؤال، ويسأل صاحبه غاضباً عن سعر الفندق، ثم يأمر مدير أعماله بدفع سعر الفندق إلى صاحبه بتوقيع شيك مصرفي بهذه البساطة!

هؤلاء هم مجانين الثروة، وهؤلاء هم الأشخاص الذين لا يتورعون عن القيام بأي شي ء للحصول على المال والثروة، حتى لو أدى ذلك إلى احتلال أفغانستان والعراق، بل وحتى القضاء عليهما، بل لو جرّ ذلك إلى إحراق العالم كلّه، وسلب الطمأنينة عنه، ماداموا يملؤون جيوبهم بالدولارات.

ممّا ذكر من مباحث نستنتج: لقد أعطى الإسلام للإنفاق أهميّة خاصة، وأوصى به على من يستحقون، ووجّه في كيفية الإنفاق وكميته، كما ذكرنا بالتفصيل سابقاً، ونظراً لأهميّة الإنفاق الكبيرة ومساعدة المحتاجين، من اللازم طرح مباحث أكثر وأوسع في هذا المجال، ولكن يلزم قبل ذلك ذكر مقدّمة حول تناسق القوانين التكوينية والتشريعية في الإنفاق.

ص: 28

التناسق التكويني والتشريعي في الإنفاق:

إنّ قوانين الإسلام متناسقة مع قانون الخلق، فلله تعالى جهاز باسم (جهاز الخلق)، نطلق عليه القوانين التكوينية، وله جهاز آخر يسمى بالقوانين التشريعية

والدينية، وبين هذين القانونين تناسق، فإن أمر الإسلام الناس بالإنفاق في جهاز التشريع، فإنّ هذا يعني أنّ في عالم الخلق والتكوين كذلك مخلوقات في حال الإنفاق والعطاء، حيث سنشير إلى نماذج منها:

أ) الشمس المشرقة، دائماً في حال الإنفاق على كافّة كواكب المجموعة الشمسية وموجوداتها، وعلى أثر هذا الإنفاق تفقد ملايين الأطنان من وزنها يومياً، متحولة إلى ضوء وحرارة، لنستفيد منها نحن البشر وباقي المخلوقات، في حين لا يعود عليها شي ء في مقابل هذا الإنفاق.

ب) الكرة الأرضية تنفق دائماً على سكانها، سواء من البشر أو الحيوانات أو غيرهما من المخلوقات، ألا تنبت هذه الحبوب الغذائية والفواكه من سطح الأرض؟

في المقابل ما الذي نقدمه لها؟ بل أحياناً، وبدل أن نردّ هنا الجميل لعطاء الأرض بشكل سليم، فإننا نقوم بتخريب المصادر الطبيعية لها!

ج) البحار كذلك في حال من الإنفاق الدائم، إذ تتبخّر مياه البحار بدون مقابل، وتتحوّل تلك الأبخرة إلى بحر من المياه على شكل غيوم في السماء، ومن ثم ترسل بواسطة الرياح إلى الأراضي القاحلة لتروي بقطرات أمطارها تلك الأراضي المتعطشة.

د) حتى الحيوانات ليسوا مستثنين من قانون الخلق هذا، فعندما تعطي البقرة من أربعين إلى ستين ليتراً من الحليب يومياً، فإن نسبة قليلة منه يكون من نصيب صغيرها، أما الباقي فيستفيد منه الإنسان.

والنحل نموذج مناسب آخر لما ذكر أعلاه، فهي الحشرة والحيوان الوحيد التي لا تنام طوال حياتها، وتعمل ليل نهار لتقدم للإنسان أحلى الحلويات وأكثر الأغذية فائدة، يقول تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (1).

بناء على هذا، فالكون كلّه في حال الإنفاق، وقوانين الإسلام متناسقة مع قوانين التكوين والخلق، ولهذا يأمر تعالى الإنسان بمساعدة المحتاجين في المجتمع متناسقاً مع عالم التكوين.

ه-) إنّ الجهاز الداخلي لجسم الإنسان في حال الإنفاق كذلك، فقلب الإنسان يستمر في حياته بكمية قليلة من الدم، ولكنه يسعى طوال سنوات متمادية، وعبر النشاط المتواصل ليوصل الدم إلى سائر أعضاء جسم الإنسان.

وبالتالي فهذا العالم الكبير الذي يحيط بالإنسان، والعالم الصغير في داخل جسده، كلاهما في حال الإنفاق، وعلى الإنسان أن يكون من أهل الإنفاق، وإلّا فهو نتوء نافر في عالم الخلق والمتناسق.


1- سورة النحل، الآيتان 68- 69.

ص: 29

الإنفاق في القرآن:

اشارة

في القرآن الكريم آيات متعددة حول الإنفاق من مختلف جوانبه، حيث سنشير إلى نماذج منها، وهي من الأهميّة بحيث إن لم نوفَّق لحفظها، فيلزم علينا أن نحفظ مضمونها في أذهاننا، ونقيم بناء حياتنا على أسسها.

إنّ الجزء المهم من آيات الإنفاق ورد في سورة البقرة حيث نزلت في المدينة المنورة، ونعلم أنّه نتيجة هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، فإنّ مجموعة من المهاجرين الذين تركوا بيوتهم وأموالهم وأعمالهم في مكة متوجهين إلى المدينة مدفوعين بعشق الإسلام ورسوله صلى الله عليه وآله، كانوا يعيشون في ضيق في المدينة، وكان أصحاب الصفة منهم، عندها أصدر الباري عزّ وجلّ في مثل هذه الظروف والأحوال أوامر متتالية حول الإنفاق، وشجع المسلمين عليه بشتى الأساليب والطرق حتى يساعدوا المحتاجين ليتمكّن من أصيب بالفقر والحاجة في سبيل الإسلام القيام بمهامه الدينية والشرعية، ومتابعة حياته بمساعدة إخوانه المسلمين ولنلاحظ بعض هذه الآيات:

ص: 30

1. التنمية الاستثنائية للإنفاق:

يقول تعالى في الآية (261) من سورة البقرة:

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَة مِائَةُ حَبَّة وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ

إنّ الإنفاق من المنظور القرآني يتمتع بدرجة من الأهمية حتى إنّه ينمو إلى 700 ضعف على الأقل وإذا كان إخلاص المنفق أكثر وأولوياته التي يختارها في الإنفاق تمتاز بحاجة المجتمع أكثر فإنّه من الممكن أن ينمو حتى 1400 ضعف أو أكثر.

ص: 31

ومن اللافت للانتباه أنّ هذا النمو المذكور مختص بالمنفق، إذ يمكن أن يبلغ المنفق من حيث الفضائل الأخلاقية والصفات الروحية الحسنة حتى ذلك الحد من النمو.

سؤال: هل وجد حتى الآن حبة يمكن أن تنتج 700 حبة أخرى، أو أنّه كما هو متعارف فإنّ المحاصيل لا يمكن أن تتجاوز في إنتاجيتها في الأراضي الخصبة حتى عشر أضعاف فحسب، وأنّ ما طرح في الآية الكريمة ليس إلّا فرضية فحسب؟

جواب: قبل عدّة سنوات نمت في مزرعة من منطقة بوشهر حبة قمح وأعطت سنابل فيها أكثر من ألف حبّة، ولهذا فإنّ ما ورد في الآية الكريمة ليست فرضية فحسب بل له مصداق خارجي أيضاً.

سؤال: هل ما ورد حول فضيلة الإنفاق والنمو الذي قلّ نظيره في الآية الكريمة مختص بالدنيا فحسب أم أنّه يشمل الدنيا والآخرة كليهما؟

جواب: إنّ الآية الكريمة مطلقة وما ورد فيها من فضائل الإنفاق لا يختصّ بالدنيا أو الآخرة فقط، لذا فإنّ الإنفاق يؤدي إلى الخير والبركة في الدنيا، والأجر والثواب والنجاة في الآخرة.

وقد وردت في الرواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلامأنّه عندما تتعقّد

حياتك وتواجه مشكلات مالية فبادر إلى حل تلك المشكلات بالصدقة (1).

ومعنى هذا الحديث أنّ الصدقة في الدنيا حل للمشكلات وحتى عندما يواجه الإنسان حالة الفقر والفاقة يستطيع أن ينفق بما يستطيع من إمكانات موجودة في يده حتى يحل الله عزّ وجلّ مشكلاته بلطفه وكرمه.


1- وسائل الشيعة، ج 6، ص 259، ح 20.

ص: 32

2. الإنفاق شرط الإيمان ومظهر الرحمة:

لقد رسم الله عزّ وجلّ في عشر آيات من سورة البلد في الآيات من (8) حتى (17) لوحة رائعة عن أهميّة الإنفاق حيث يقول تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ

أي ألم يجعل الله عزّ وجلّ للإنسان في هذه الدنيا عينين ليرى بهما؟

وهل فكرت أيّها الإنسان في أهميّة ودور العين وقيمته الكبيرة ودوره الأساسي؟

هل أنت مستعد أيّها الإنسان أن تبادل عينيك في مقابل إعطاء الدنيا كلّها لك؟

وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ لا ريب أنّ اللسان نعمة إلهية كبرى ومن يفتقد هذه النعمة لا ريب أنّه يعيش مصيبة كبرى في حياته، فهل فكر الإنسان في شفتيه أو لا؟ فإن لم تكن له هاتان الشفتان لما استطاع أن يتلفّظ بنصف حروف الأبجدية، علاوة على ذلك فإنّ الشفتين تلعبان دوراً في منع سقوط الطعام من الفم.

ص: 33

وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي إنّ الله عزّ وجلّ بمنح الإنسان نعمة العقل الذي لا مثيل له ولا بديل له أعطى الإنسان القدرة على تمييز طريقي الشر والخير بعضهما عن بعض، وبعد أن أشار الله عزّ وجلّ إلى هذه النعم الإلهيّة الأربعة كمقدمة يقول تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي: الإنسان مع وجود هذه النعم الإلهيّة، هل من المعقول ألا يتجاوز تلك العقبة مع هذه الوسائل الهامة التي بين يديه، ويضيف تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَة، والمقصود من تلك العقبة الصعبة هو الإنفاق في سبيل الله والذي له مصاديق متعددة منها تحرير العبيد؟

سؤال: لماذا أيّد الإسلام نظام العبودية؟

جواب: لم يكن الإسلام أول من أسس نظام العبودية، بل كان ذلك النظام حاكماً على العالم في ذلك الوقت قبل مجي ء الإسلام، ووضع الإسلام برامج للتحرير التدريجي للعبيد (1).

بحيث إنّ الإمام علي عليه السلامالخليفة الشرعي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حرّر ألف عبد من كدّ يمينه وعرق جبينه (2).

ويكمل القرآن الكريم قائلًا: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة* يَتِيماً ذا مَقْرَبَة* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَة (3) فعلى الأقارب ألا ينسوا أيتامهم، فعندما يذرف اليتيم دمعة فإن عرش الله يهتز نتيجة ذلك (4)، كما لا ينبغي نسيان أولئك الفقراء والمساكين الذين اضطرتهم شدّة الفقر والفاقة إلى أن يفترشوا الأرض ليناموا عليها، ويضيف تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (5)، ومعنى هذه الآية أنّ مساعدة المحتاجين تقوّي إيمان الإنسان، بتعبير آخر فإنّ الإنفاق على المحتاجين ومساعدة الفقراء مقدّمة الإيمان والتوصية بالصبر ونزول الرحمة الإلهيّة.

إنّ كثيراً من الشباب يتساءلون حول كيفية السير والسلوك والبرامج العرفانية، وأحياناً يقعون في هذا السبيل بيد بعض المخادعين من المتظاهرين بالعرفان، ممّا يؤدي إلى بعدهم عن حقيقة الدين، في حين أنّ القرآن الكريم وضّح البرامج العرفانية بشكل جيد (6)، وإحدى أفضل البرامج في السير والسلوك هو الإنفاق في

سبيل لله، أي إنّ العبادة والذكر وتلاوة القرآن والتوسل وأمثال ذلك جميعاً من الأمور اللازمة والمطلوبة والحسنة، ولكن السالك بدون مساعدة المحتاجين لا يمكنه أن يصل إلى تلك المراتب العليا، فالإنفاق يرفع من جهة المشاكل المالية للمحتاجين، ويؤدي إلى كسب الإنسان أدعية الخير له من هؤلاء بفضل الإنفاق، ومن ناحية أخرى، فإنّه يقلّل من ارتباطه بمال الدنيا ويسلب ذلك الأمر من قلبه، بالإضافة إلى أنّه يؤدي إلى تنمية الرحمة والعطف في الإنسان وتقليل قساوة قلبه.


1- لمزيد من الاطلاع، انظر: التفسير الأمثل في تفسير سورة محمّد صلى الله عليه وآله.
2- وقد ورد هذا الموضوع في روايات عديدة حيث نلاحظ في الجزء 41 من بحار الأنوار تكرار ذلك عشر مرات في الصفحات التالية: 32، 37، 43، 58، 102، 110، 130 (وموردين) في 133، 138، واللافت في الحديث الأخير من بحار الأنوار أنّه قد حرّر هذا المقدار من العبيد في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله.
3- سورة البلد، الآيات 14 و 15 و 16.
4- انظر: الأخلاق في القرآن، ج 1 للمؤلف.
5- سورة البلد، الآية 17.
6- انظر: الأخلاق في القرآن، ج 1 للمؤلف.

ص: 34

3. دور الإنفاق في منع التهلكة:

يقول تعالى في الآية (195) من سورة البقرة ما يلي: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يتخيل البعض أن هذين الأمرين الإلهيين بالإنفاق وعدم إلقاء النفس بالتهلكة منفصلان بعضهما عن بعض ولا علاقة بينهما، ولكن كبار المفسرين ذكروا بأنّ هذين الأمرين مرتبطان لأنّ التهلكة ثمرة ترك الإنفاق.

ولتوضيح ذلك نقول: عندما تترك سنّة الإنفاق ومساعدة المحتاجين في المجتمع أو تقليلها، عندئذ تزداد الهوة بين طبقات المجتمع بحيث يصبح الأغنياء أكثر غنىً والفقراء أكثر فقراً، وهذه الفوارق الطبقية تؤدي إلى خلق الاضطرابات الاجتماعية في المجتمع، مما يؤدي إلى ذهاب بعض هؤلاء الأغنياء ضحية لها، ولهذا فإنّ ترك الإنفاق من قبل الأغنياء يمكن أن يؤدي إلى هلاكهم، ولكي يتخلص هؤلاء من هذا الهلاك ينبغي عليهم أن ينفقوا.

إن كان الشيوعيون استطاعوا أن يسيطروا على جزء من العالم، فإنّ سبب ذلك يعود إلى استغلالهم لتلك الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع، حيث استطاعوا باللجوء إلى القلاقل والفتن والاضطرابات والمواجهات التي كانت تقع بين العمال والفلاحين والأفراد الضعفاء والفقراء في المجتمع من جهة والأغنياء والمتموّلين من جهة أخرى

وعبر طرحهم للشعارات الخادعة الخاوية أن يستغلوا ذلك كلّه ليحكموا جزءاً من العالم.

ولا يقبل الإسلام أبداً هذا الأسلوب الخاطئ، حيث أوصى في تعاليمه بطرق معقولة ومنطقية منها: الإنفاقات الواجبة والمستحبة، ولكن كل أمر خاطئ يؤدي إلى نتيجة خاطئة.

يقول علي عليه السلامفي إحدى كلماته الرائعة حول هذه المسألة:

حَصِّنُوا أموالَكُم بالزَّكاةِ

(1)، أي إنّكم لن تحفظوا أموالكم إلّا بدفع الزكاة والصدقات والحقوق الشرعية الأخرى.

وهنا يجب أن نطرح هذه الأسئلة:

- لماذا تؤمّن أفغانستان 80% من المواد المخدِّرة في العالم؟

- ولِمَ إزداد إنتاج أفغانستان من هذه المواد المخدِّرة مع تواجد الأمريكيين غير الشرعيين في هذه البلاد؟

لا شك أنّ أحد العوامل المهمّة لهذا الانحراف الاقتصادي الكبير الذي أدى إلى مفاسد عظيمة يتمثل بما يعانيه الشعب الأفغاني من فقر وفاقة، ذلك البلد الذي كان عرضة طوال سنوات لحملات القوى العظمى الشرقية والغربية، حيث تحوّل إلى خراب ودمار نتيجة ظلم ظالمي العالم والمواجهات والتوترات الداخلية، ما أدّى إلى تعاسة شعبه، واضطرّه إلى أن يتوجّه إلى إنتاج المواد المخدّرة التي لوّثت قارات أمريكا وآسيا وأوربا وحوّلت شبابهم إلى أفراد عاجزين بلا إرادة.

ومن ذلك كلّه نستنتج: إنّ ترك الإنفاق يمكن أن يتحول سبباً إلى هلاك الإنسان.


1- وسائل الشيعة، ج 6، ص 7، ح 16.

ص: 35

4. الإنفاق علامة التقوى:

يقول تعالى في الآيات الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وأنّ مضمون ومحتوى وفصاحة القرآن وبلاغته بلغ حدّاً لا يمكن أن يرقى أي شك أو شبهة في نسبته إلى الله تعالى، نعم إنّ القرآن الكريم دليل على حقانيته كالشمس في كبد السماء.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ للتقوى الذي يعدّ مقياس كرامة الإنسان (1) والذي يعتبر زاد الآخرة (2) والذي يمثّل مفتاح دخول الجنّة (3) ثلاث علامات وخصائص، ولا يمكن أن يسمَّى الإنسان متقياً إلّا إذا كانت فيه تلك العلامات:

1. العلامة الاعتقادية، وهو الإيمان بالغيب أي الإيمان بالله ويوم القيامة، والذي لا يمكن رؤيته بالعين المجردة.

2. العلامة العبادية: وذلك بأداء العبادات والإرتباط بالله تعالى.

3. العلامة الإنسانية: وهو الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين ممّا أعطاه الله لذلك المتقي، سواء بالمال والثروة أو مقام وجاه ومصداقية وعلم ومعرفة وعفو وصفح، أي كل ما رزقه الله عزّ وجلّ.

ومن الآيات الأربعة السابقة وتفسيرها وتوضيحها بشكل مختصر تتضح لنا أهميّة مكانة الإنفاق في الإسلام، والآن سنقوم بدراسة شروط الإنفاق:


1- كما ورد في الآية 13 من سورة الحجرات: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ
2- كما ورد في الآية 19 من سورة البقرة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
3- كما ورد في الآية 63 من سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً.

ص: 36

شروط الإنفاق:

للإنفاق شروط إن لم تكن موجودة فيه فهو غير مقبول، وكما ورد في القرآن الكريم فإنّ هناك أربعة من الشروط المهمة على الأقل له:

1. ألّا يترافق بالمنّ: يقول تعالى في الآية الشريفة (264) من سورة البقرة، يقول

تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى

إنّ أوّل شرط للإنفاق عدم ترافقه بالمنّ، وهو بمعنى الوزن، بمعنى أنّه كما يؤدي حجر الميزان والمنّ الذي يساوي 3 كيلو غرامات إلى تثقيل الكفة، فإنّ المنّ على الفقراء له نفس ذلك الأثر الثقيل عليهم، وللأسف الشديد نلاحظ أنّه قد يساعد شخص شخصاً آخر ولكنه لا يترك الامتنان عليه حتى آخر حياته بذلك، فمثلًا يقول له: (لولاي لما كنت صاحب منزل أو مسكن) أو يقول له: (لولا مساعداتي لكنت الآن مسكيناً ووضعك تعيساً؟).

وكما ورد في القرآن الكريم فإنّ المنّ يبطل الإنفاق، ولهذا قد ينفق إنسان ما جبلًا من الذهب ولكنّه بتلفظ عبارة فيها منّ يبطل ذلك العمل الكبير!

سؤال: إذا كان المنّ أمراً غير مناسب ومقبول، فلماذا نرى الله عزّ وجلّ في بعض آياته يمنّ على عباده، فمثلًا نقرأ في الآية (164) من سورة آل عمران ما يلي: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

ص: 37

جواب: إنّ منّ الله عزّ وجلّ ليس باللسان بل بالعطاء والمنح، وحينما يقال: إنّ الله يمنّ أي إنّ الله يمنح ويعطي، وهذا الأمر ليس أمراً غير مقبول، أما منّ الناس فيتمثل بتكرار ما أدّوه من خدمة عدّة مرات ليسمعه الطرف المقابل، ممّا يؤدي إلى أذى الطرف الذي تلقى تلك الخدمة وهذا الأمر قبيح، وبالنتيجة: إنّ الشرط الأول للإنفاق هو ألّا يترافق مع المنّ.

2. ألّا يترافق مع الأذى: كما مرَّ في الآية الشريفة (264) من سورة البقرة، فإنّ الشرط الثاني للإنفاق ألّا يترافق مع الأذى، وألا يؤذى المحتاج باللسان، وللأسف الشديد نلاحظ أنّ بعض الناس أثناء إنفاقهم يخاطبون المحتاج قائلين:

(خذ ما تحتاج، ولكن لا تأتي إلينا مرّة أخرى) أو يقولون له: (لِمَ تأت إلينا وتضايقنا كل يوم؟) أو يقولون له: (لِمَ تريد هذا الكمّ من المساعدة فكم معدة لديك؟) وهذه الجمل والعبارات تؤدي إلى تأذّي المحتاج وتبطل الإنفاق، ولهذا ينبغي تركها

ولا يحقّ للمنفق أن يذهب بماء وجه المحتاج مقابل المساعدة القليلة التي يعطيها.

ويقول القرآن الكريم حول كيفية التعامل مع المحتاج وتجنّب الأذى أثناء الإنفاق ما يلي:

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (1).

وطبقاً لهذه الآية الشريفة إذا طلب منكم فقير مساعدة فقلت له: أعتذر منك، وإني بالفعل أشعر بالخجل لأنني لا أستطيع أن أساعدك اليوم فأرجو أن تسامحني فإن هذا التصرّف أفضل من أن تعطيه رزمة من الأموال والنقود والعملات وتقول له: أعطيك هذا اليوم ولكن إيّاك أن أراك مرّة أخرى

ويعتبر القرآن الكريم هذا الإعتذار قولًا معروفاً، وأفضل من الإنفاق مترافقاً بالأذى، على الرغم من أنّ حاجة المحتاج لا ترتفع بالإعتذار ولكن كرامته تحفظ بذلك، وحفظ كرامة المسلم وماء وجهه تحظى بدرجة هامة جدّاً، والسرّ في أنّ الغيبة تحتل تلك الدرجة من النفور والقبح لأنّ ماء وجه المغتاب يكون عرضة للخطر، وحفظ ماء الوجه عند بعض الأشخاص أهمّ من حفظ النفس، لأنّه يكون أحياناً حاضراً للموت مقابل ألّا يذهب بماء وجهه.


1- سورة البقرة، الآية 262.

ص: 38

3. أن يكون الإنفاق بنيّة خالصة: إنّ الشرط الآخر للإنفاق أن يكون لجلب رضا الله عزّ وجلّ فحسب لا لغرض الرياء والتظاهر، أو لاستقطاب آراء الناس في الانتخابات أو لجذب مدحهم وتمجيدهم له أو جمع المريدين والزبائن حوله، وأمور أخرى من هذا القبيل، بل يجب أن يكون هذا الإنفاق لكسب رضا الله عزّ وجلّ فقط وفقط.

ولننظر إلى هاتين الآيتين الكريمتين من القرآن الكريم اللتين ترسمان صورتين، إحداهما للإنفاق في سبيل الله وفي سبيل رضاه، والأخرى للإنفاق بغرض الرياء والتظاهر.

يقول تعالى في الآية (264) من سورة البقرة واصفاً المرائي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوان عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ء مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ

وفي هذه الآية نقطتان أساسيتان ينبغي الاهتمام بهما:

الأولى: وردت في الروايات الشريفة أنه عندما تتلى هذه الآيات التي تبدأ ب يا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا فيجب أن يقول المخاطب (لبيك) (1) أي على كل واحد من المسلمين بل على كل البشر الذين يخاطَبون بهذه الآيات القرآنية أن يعملوا بمضمونها.

النقطة الثانية: عمل الإنسان المرائي لا أصل أو جذر له، فلا يدوم، حيث يلاحظ الناس بسرعة هذا الرئاء، ممّا يؤدي إلى ذهاب مصداقية ذلك الشخص ليس أمام الله فحسب بل أمام خلقه أيضاً.

لقد كانت تلك الآية الكريمة تصويراً معبراً عن الإنفاق بدون قصد القربة إلى الله ولكن الآية الكريمة (265) من سورة البقرة ترسم صورة من الإنفاق الخالص لوجه الله، حيث يقول تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة بِرَبْوَة أَصابَها وابِلٌ فاتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وطبقاً لهذه الآية الكريمة فإنّ الإنفاق الخالص لوجه الله يوجب تحكيم الفضائل الأخلاقية في أعماق وجود الإنسان، وتبعد عنه البخل وحب الدنيا بل تؤدي إلى تنمية الفضائل الأخلاقية في الإنسان، والأشخاص الذين يعملون لرضى الله عزّ وجلّ فإنّ آثارهم تبقى خالدة وباقية وأكثر جذباً، وأنّ المساجد العامرة والكتب التي تخطى بقراءة أكثر، والمدارس التي بنتها

الشخصيات المهمّة وأهدتها للمجتمع، كلها علائم على إخلاص من قاموا بها، وكلما كان إخلاصهم أكثر كانت آثارهم خالدة أكثر وجذبت أكبر عدد من الناس.


1- وسائل الشيعة، ج 4، ص 753، ح 1.

ص: 39

الإخلاص روح العبادة:

كما أنّ الإنسان جسم وروح فإنّ للعبادات كذلك جسماً وروحاً.

جسم الصلاة يتمثل في التكبيرات والركوع والسجود والأذكار والقراءة والتشهد والتسليم وأمثالها، أمّا روح الصلاة فهو حضور القلب والتوجه لله فحسب وقطع ارتباط القلب بغير الله، وأنّ الصلاة المقبولة عند الله هي التي تقرّب الإنسان إلى الله، وتبعده عن الفحشاء والمنكر والأعمال القبيحة، وتعرج بالمؤمن إلى سماء الفضيلة.

لذا نقرأ في الروايات أنّه لا تقبل من الصلوات إلّا ما كان فيها حضور القلب (1).

وهناك طرق لنيل حضور القلب في الصلاة ذكرناها في ج 14 من تفسير الأمثل ص 204 وما بعد.

وإنّ جسم الصيام يتمثّل في ترك الطعام والشراب وباقي المبطلات، أمّا روح الصيام فيظهر في الوصول إلى قمة التقوى يقول تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2)، فإن أحيا الصيام روح التقوى في الصائم، عندها يكون صيامه جسماً وروحاً، أمّا إن كان صيامه كما قال علي عليه السلام:

كَمْ مِنْ صائِم لَيسَ مِنْ صِيامِهِ إلّا الجُوعُ وَالعَطشُ، وَكَم مِنْ قَائم لَيسَ مِنْ قِيامِهِ فِي اللّيلِ إلّا التَّعبة وَالسَّهرُ

(3).


1- ميزان الحكمة، ج 5، ص 2165، باب 2290، ح 9- 10636.
2- سورة البقرة، الآية 183.
3- ميزان الحكمة، ج 5، ص 2230، الباب 2356، ح 41 و 10939.

ص: 40

إنّ المهمّ هو الاهتمام بروح العبادات بالإضافة إلى أجسامها، لأنّ من يهتمون بجسم العبادات فحسب ويغفلون عن روحها يرتكبون أخطاء جسيمة في هذا المجال، وكذلك من لا يهتمون بجسم العبادات ويتخيلون أنّهم يركزون على روح العبادات، فإنّهم قد ارتكبوا أيضاً أخطاء وسلكوا الطريق الخطأ، فجسم الحج يتمثل بالإحرام والوقوف في عرفات والمشاعر وأعمال منى والطواف والسعي والحلق والتقصير وأمثال ذلك، أمّا روح الحج فيتمظهر بأنّه عندما يرجع الحاج من مكة

يجب أن يكون إنساناً جديداً كيوم ولدته أمه، لا أن يرجع من هناك قد ملأ جيوبه بالأموال أو اشترى أدوات وأجهزة غير مطلوبة قد صنِّعت في دول غير معروفة مثل الصين وأمريكا واسرائيل، نعم، إنّ روح الحج تتمثل في إيجاد وخلق التحول والتغيير في روح الإنسان، عبر النظر إلى آثار رسول الله صلى الله عليه وآله والتاريخ الحيّ للإسلام في مكة والمدينة المنورة، وعبر السفر والسير الروحي إلى قلب تاريخ الإسلام وزمن رسول الله صلى الله عليه وآله في صدر الإسلام، وأن ينظر بعين القلب كيف وقف رسول الله وحيداً مع خديجة وعلي (عليهما السلام) مقابل أنظار المشركين وأعداء الإسلام قائمين يصلّون لله عزّ وجلّ، ولا يفكّرون في ذلك إلّا برضى الله عزّ وجلّ.

ولكن للأسف الشديد، فإنّ الوهابية المتعصّبة المتحجِّرة الفاقدة للتفكير قامت بتخريب الكثير من الآثار التاريخية في مكة والمدينة وهم في سعي دائم للقضاء على الآثار الباقية الأخرى.

ص: 41

إنّ إحدى المشاكل الأساسية في عالم الإسلام التي ينبغي على علماء الإسلام أن يفكّروا فيها، تتمثّل بأنّ الآثار الإسلاميّة في مكة والمدينة قد وقعت في أيدي عدّة أشخاص منحرفين ومبتلَيْنَ بأخطاء عديدة، ممن حمَّلوا الإسلام ضربات كثيرة في سائر أنحاء العالم.

وللإنفاق كذلك، جسم وروح، فجسمه يتمثّل بالمساعدات المادية وغيرها من قبل الناس القادرين وإعطائها للمحتاجين، أمّا روحه فهو الإخلاص وقصد القربة إلى الله تبارك وتعالى.

سؤال: لا دخل لأحد في نية الناس، فعندما يقوم شخص خيّر ببناء مدرسة أو مسجد أو حسينية أو مستشفى، فما الذي يغيّر من ذلك الشي ء إذا كانت نيّته الرياء أو القرب إلى الله؟

جواب: إنّ هناك فرقاً شاسعاً بين من يقوم ببناء المستشفى بقصد رضى الله عزّ وجلّ وخدمة المحتاجين وبين من يقوم بذلك رئاء الناس والتظاهر أمامهم، فالأوّل

يكون في سعي دؤوب للتقرّب إلى الله تعالى وجسر الهوّات بينه وبينه تعالى، وأمّا الآخر فدائب لاستغلال هذا الأمر عبر التظاهر به أمام الناس، أنّ هذا الفرق هو كالفرق بين من يبني مكاناً لرضى الله أو يسافر إلى منطقة محرومة، وبين ذلك الشخص الذي يعمل ويذهب إلى مكان آخر حتى يجتمع حوله الناس ويمدحوه، وأنّ الفرق بين هذين المثالين لا يمكن أن يكونا خافيين عن أحد.

فالمهندس والمعماري المرائي يفكر فقط بنفسه واللحظة التي يعيشها وذلك عبر الانتهاء من البناء واستلام النقود والوصول إلى الشهرة حتى لو أدى ذلك الأمر إلى انهدام ذلك البناء بعد مدّة قصيرة وما يؤدي من خسائر مادية وجسدية في المستقبل، أمّا ذلك الذي يعمل لرضا الله عزّ وجلّ فإنّه يفكر أيضاً في مستقبل عمله أيضاً، وقد صادفنا أثناء وقوع الزلزال في مدينة (بم) هذين النوعين من التفكير وما أديا إليه، إذ كم من مؤسسات إدارية تمّ بناؤها من قبل متعهّدين لم يفكر بنّاؤوها إلّا بجمع الأموال حيث كانت فاقدة لأنظمة الأمان والقوة اللازمة فدمِّرت، أمّا المسجد الجامع للمدينة الذي كان قد بني بنيّة خالصة لله عزّ وجلّ وبقصد القربة فلم يتعرض للدمار، لذا فإنّ الإخلاص والرياء في العمل لهما تأثير على العمل ونتائجه ولا يقتصر تأثيرهما في النيّة فحسب.

ص: 42

قليل دائم:

إنّ الأعمال التي تؤدى في سبيل الله عزّ وجلّ ونوعيتها المستمدة من الإخلاص والتقرب إلى الله تتميز بأنّ قليلها كثير وأنّها دائمة رغم قلتها، ولنا في التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة على ذلك بالإضافة إلى نماذج أخرى في سائر الأديان الأخرى، بأنّ العمل القليل المخلص كان مادة لخيرات كثيرة.

فعندما مرّ موسى عليه السلامبتلك الحوادث الخاصة التي وقعت له، وأصبح ملاحقاً من قبل فرعون وأتباعه، أجبر لحفظ نفسه على ترك مصر والسفر إلى مدين، وكان في

حالة يرثى لها من الفرار بحيث لم يكن لديه زاد لسفر أثناء هربه من عمّال الطاغوت، ولم يكن يعرف أحداً في مدين، ولكنه عندما وصل إلى هناك قام بخطوة صغيرة في سبيل رضى الله عزّ وجلّ أدّت إلى تحول كبير في حياته، حيث استلقى تعباً في ظلّ نخلة وجلس تحتها وصار ينظر إلى مشهد سقي الخراف، مناجياً ربّه، وإذا به يرى من بين من يريدون سقي أغنامهم فتاتين تريدان أن تقوما بذلك وتنتظران دورهما لكي تقيسا، ولم يكن الشباب يسمحون لهما، فاقترب عليه السلاممن ذلك البئر واعترض على الرعاة قائلًا: لم لا تسمحون لهاتين الفتاتين أن تقوما بسقي أغنامهما عندما تصل النوبة إليهما؟

فابتعد هؤلاء الشباب فقام موسى عليه السلامفأدلى بدلوه، واستخرج الماء لوحده بقوّته التي كان الشباب يحتاجون لأكثر من شخص ليقوموا بذلك، وملأ السقاء ماء وأخرجه من البئر، مستعيناً بالله عزّ وجلّ في ذلك وسقى أغنام الفتاتين ثم رجع إلى موضعه في ظلّ النخلة وخاطب ربّه قائلًا: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ (1)، في ذلك اليوم رجعت بنات شعيب إلى بيت أبيهما أبكر من كل يوم وقصّتا على أبيهن ما حدث فأرسل شعيب عليه السلامإحدى ابنتيه خلف موسى لكي تدعوه إلى بيته، فشكره شعيب على ذلك، فأصبح موسى نتيجة لذلك صاحب زوجة ومال وثروة، بالإضافة إلى تلقيه في تلك المرحلة تربيته النبوية بيد نبي عظيم الشأن من أنبياء الله عزّ وجلّ، نعم إنّ هذا العمل البسيط الذي يتمثل في سقي عدد من الأغنام لرضى الله عزّ وجلّ أضحى منشأ خير وبركة على النبي موسى عليه السلام.

إنّ النموذج الآخر لذلك الأمر، قصّة طوعة، فعندما بقي سفير الإمام الحسين عليه السلاممسلم بن عقيل عليه السلاموحيداً غريباً يمشي في أزقة الكوفة يبحث عن ملجأ له بعد أن نكث من كان معه العهد الذي قطعوا معه، مرّ بدار طوعة التي كانت تنتظر ولداً لها وتأخر عن الرجوع إلى منزله، فكانت تطلّ من الباب وتدخل إليه مرتقبة حضوره،

وإذا بها ترى شخصاً غريباً متكئاً على حائط المنزل، فاستفسرته عنه فعرّف عن نفسه بأنّه مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين عليه السلام، عندها قامت تلك المرأة بدعوته إلى منزلها واستضافته تلك الليلة، قد بقي أثر هذه المبادرة في التاريخ خالداً فكم من الأشراف والأغنياء عاشوا في الكوفة ولكن التاريخ لم يحفظ اسم واحد منهم، وحفظ اسم تلك المرأة بجانب اسم الإمام الحسين عليه السلامفي تاريخ كربلاء خالداً، لأنّها قامت في ليلة من الليالي بنية خالصة باستضافة سفير الإمام الحسين عليه السلام، لذا إذا كان عمل الخير مترافقاً بالإخلاص فإنّ قليله أيضاً كثير وخالد وباق.


1- سورة القصص، الآية 24.

ص: 43

الإنفاق الجمعي المنظم:

في عالم اليوم لا تلبي النشاطات الفردية حاجات المجتمع ولهذا يجب العمل بصورة جماعية منظمة، وعليه فإنّ الإنفاق في سبيل الله مطلوب ومساعدة فقراء المنطقة ووضع النقود في صندوق الصدقات كذلك، ولكن بنفس الوقت ينبغي الانضمام إلى المجموعات التي تقوم بالأعمال الخيرية.

فيما يلي أشير إلى بعض تلك المجموعات:

1. جمعية دعم المسجونين نتيجة الإفلاس، أو المهور الثقيلة أو الحوادث غير المتعمَّدة وأمثالهم ممن أُلقوا في السجون بسبب ذلك، وبقي أزواجهم وأولادهم بلا نفقة أو دخل في المجتمع.

2. جمعية دعم الأيتام والأطفال الذين فقدوا معيليهم.

ص: 44

3. جمعية دعم المرضى الذين اصيبوا بأمراض عضال مثل

مرض الكلية

الذين لا يقدرون على تحمل تكاليف العلاج والدواء الباهظ.

4. المجموعات الفعّالة في سبيل إعداد جهاز الفتيات اللاتي يقدمن على الزواج.

5. المجموعات المتحملة لمسؤولية بناء وتشييد المساجد والمدارس والحمامات والحسينيات في المناطق المحرومة الفاقدة لمثل هذه البنى.

6. مساعدة المدنيين الذين تكون كراماتهم في معرض الخطر، قد سلب دائنوهم الطمأنينة من حياتهم.

كما ينبغي العمل على تشكيل مجموعات أخرى مثل:

أ) المجموعات التي تأخذ على عاتقها تأمين التكاليف اللازمة والضرورية لاستمرار الأشخاص ذوي المواهب والكفاءات في دروسهم وتحصيلاتهم العلمية، ممن ينتمون إلى أسر فقيرة لا يستطيعون نتيجة فقرهم وحاجتهم أن يؤمنوا استمرار أولادهم في الدراسة، أو يجبرون أولادهم على ترك الدراسة نتيجة ذلك.

ب) مجموعات تأخذ على عاتقها حلّ المشاكل السكنية والقضاء عليها.

ج) مجموعات تأخذ على عاتقها تزويج الشباب الذين يحتاجون إلى الزواج ممن قد بلغوا سن الزواج ويمنعهم ضعف الإمكانات المادية.

وهناك مجموعات أخرى يحتاج إليها المجتمع.

نسأل الله عزّ وجلّ أن نتمتع من فيض الإنفاق في سبيل الله بصورة فردية أو جماعية وذلك مترافقاً بالإخلاص في سبيله حتى ترفع المصائب والكوارث عن البلاد والشعب.

ص: 45

3- القتال في الأشهر الحرم

اشارة

السؤال الثالث، بحسب ترتيب الوارد في القرآن الكريم، يتمحور حول القتال في الأشهر الحرم، أشارت إليه الآية (217) من سورة البقرة قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتال فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ

ما هي الأشهر الحرم؟

إنّ الأشهر الحرم هي:

ثلاثة أشهر متعاقبة، ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم الحرام، بالإضافة إلى شهر رجب، حيث كلّف المسلمون بوقف القتال والهدنة مع الطرف الآخر الذي يقاتلونه أثناء هذه الشهور الأربعة في حال موافقة الطرف الآخر على ذلك حتى لو كان المسلمون على حق في قتالهم.

ص: 46

الخلفية التاريخية للأشهر الحرم:

لم تختص حرمة القتال في الأشهر الحرم بالإسلام، بل كانت موجودة في زمن الأنبياء السابقين كذلك، وقد كان العرب في الجاهلية متمسكين بها، ولكنهم تلاعبوا بها وبأحكامها، بحيث إنّهم إذا كانوا منشغلين بالقتال مع قبيلة أو دولة ما، فحلّت الأشهر الحرم أثناء ذلك، وكانوا راغبين بالاستمرار في القتال، كانوا يقولون لأنفسهم: نقاتل هذه السنة في الأشهر الحرم ومن ثم نقضيها في العام القادم، حيث عبّر القرآن الكريم عن ذلك ب-

النسي ء

، يقول تعالى في الآية (37) من سورة التوبة مشيراً إلى ذلك بقوله: إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ

للأسف الشديد يسعى الأشخاص الذين يتبعون أهواءهم إلى القفز على القانون وتجاوزه أثناء مواجهتهم للعقبات القانونية، ليصلوا إلى أهوائهم النفسية.

فلسفة تحريم القتال في الأشهر الحرم:

بما أنّ الإسلام دين الرحمة والسلام والألفة، ويحارب الحرب وسفك الدماء والعنف، لذا أقرّ عوامل رادعة حتى في حالات الحروب المفروضة، منها حرمة القتال في الأشهر الحرم، فلو رعى صدام المجرم حرمة الأشهر الحرم، وأوقف الحرب على إيران لمدّة ثلاثة أشهر متتالية، معلناً الهدنة، معطياً الفرصة للجنود المقاتلين أن يتوجهوا للكعبة لحج بيت الله الحرام، لتزامنها مع تلك الفترة، ودخلوا تلك الأجواء المعنوية، لربّما أخمدت نار الحرب، ولكن للأسف، لم يكن ذلك المجرم الذي قلّ نظيره في التاريخ متمسكاً بالدين.

ولو حفظ المقاتلون الأفغان الذين كانوا ينادون بالإسلام حرمة الأشهر الحرم، لربما كانوا يعيشون الآن في بلد عامر، ولو روعي هذا القانون الإلهي أثناء الحربين

ص: 47

العالميتين الأولى والثانية، لاختلفت كثيراً إحصاءات القتلى والجرحى والمصابين والخسائر المالية الناتجة عن الحرب، عن الإحصاءات التي أفرزت.

معنى الفتنة:

للفتنة في الآيات القرآنية معنيان:

1. يقصد من الفتنة في بعض الآيات القرآنية (العذاب)، إذ كان مشركو مكة يعذبون المسلمون مثل عمار بن ياسر، وقد بلغ التعذيب منهم حدّاً أنّ والدي عمار لقيا الشهادة نتيجة ذلك، وبناء على هذا التفسير، إذا أوقف المسلمون القتال في الأشهر الحرم في حين استمر المشركون في تعذيب المسلمين فإنّ هذا الأمر غير صحيح.

2. إنّ عدم الاستقرار والإضطراب هو معنىً آخر للفتنة في القرآن الكريم، فالاضطراب وعدم الاستقرار أسوأ من الحرب الشاملة، لأنّ للحرب حسابات ومعايير خاصة، ولكن عدم الاستقرار والاضطراب فالت عن العقال ولا يمكن احتواؤه، إذ حينما يقوم الإرهابيون بمل ء سيارة بالمواد المتفجرة ويرسلونها إلى أسواق المسلمين ليفجروها، فيسقط نتيجة ذلك الأطفال والنساء والكبار والشيوخ، بغضّ النظر عن دينهم أو مذهبهم سواء كانوا شيعة أو سنّة مرضى أو سالمين، فهذا الأمر لا معيار أو ميزان له.

المواجهة المستمرة بين المستكبرين والمسلمين:

لن يرفع المستكبرون في العالم أيديهم عن إيذاء المسلمين، وإذا تراجع المسلمون خطوة واحدة إلى الوراء فإنّ أعداءهم يتقدمون إلى الأمام بذلك المقدار، ولن يرضى هؤلاء المستكبرون عنَّا إلّا بتخلّينا عن الإسلام، كما يقول تعالى عن اليهود والنصارى في الآية الشريفة (120) من سورة البقرة: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ

ص: 48

وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ

لذا يجب ألا نسعى لكسب رضى هؤلاء بل العمل بواجباتنا فحسب.

ضرورة البحث حول الحرب والسلام في الإسلام:

لمناسبة البحث حول حرمة القتال في الأشهر الحرم يلزم أن نتعرف على نظرة الإسلام حول الحرب والسلام مستفيدين ومستعينين بالآيات القرآنية وذلك بصورة مختصر ومضغوطة، لأنّ لهذا البحث سببين للزوم البحث فيه:

1. إنّ الغربيين لا سيما مسؤولي الكنائس ورؤساء المسيحية، يسعون بشكل دائم إلى الترويج بأنّ الإسلام دين الحرب والعنف ولم يتقدم إلّا في ظلّ السيف وذلك بهدف إبعاد الناس عن الإسلام وخوفاً من استقطاب هذا الدين للناس، الذي مُلئ رحمة وعاطفة، في حين إننا سوف نثبت بالاستعانة بالآيات القرآنية خلاف ما يدّعون، إذ إنّ الدول الإسلاميّة الكبرى مثل: إندونيسيا وماليزيا وسائر الدول الإسلاميّة في شرق آسيا قد اعتنق سكانها الإسلام مع أنّه لم يطأ قدم جندي مسلم أراضي تلك البلاد، بل وصل الإسلام إلى هناك بعد اطلاع أهل تلك المناطق على المعارف العالية التي يختزنها هذا الدين الإسلامي ففتحوا قلوبهم وعقولهم لقبول هذا الدين الجديد، وبالتالي يجب أن نبيّن رأي الإسلام في هذا البحث بالاستعانة بالنصوص الدينية الأصلية حول الحرب والسلام حتى نحبط هذه الدعاية المسمومة الكاذبة.

2. إنّ ما يدفعنا للبحث حول هذا الموضوع، ما نشهده من أفكار وأعمال وأساليب غير سليمة وخاطئة من قبل بعض المسلمين، أو بتعبير أصح من بعض من يتظاهرون بالإسلام، نعم إنّ الأعمال المخالفة للدين والأفكار المغلوطة للوهابيين

السلفيين المتعصبين الذين يقدّمون الإسلام على أنّه دين العنف والحرب والقتال، يوضح لنا ضرورة هذا البحث أكثر ممّا سبق، وأنّ الضربة التي أوقعتها هذه

ص: 49

المجموعة الجاهلة المتحجّرة بالإسلام لم يسبق لها مثيل طوال تاريخ هذا الدين، إذ إنّ الإسلام يدعو إلى وقف القتال في الأشهر الحرم حتى مع الكفار الذين نحاربهم، ولكن هل التزم هؤلاء الإرهابيون الوهابيون في العراق بالهدنة في تلك الأشهر أو لا؟

هل حفظوا حرمة الأشهر الحرم لمنع سفك دماء المسلمين؟

إذاً فالنقطة الأولى تبيّن لنا ضرورة البحث في رأي الإسلام حول القتال والسلام وذلك لمواجهة دعايات الأعداء المغرضة، أمّا النقطة الثانية فتحتّم علينا البحث حوله لمواجهة تلك التصرفات والسلوكيات التي تبدر من مجموعة صغيرة متظاهرة بالإسلام.

المشكلات الثلاث التي يعاني منها المسلمون:

نحن المسلمين نمتلك تعاليم وثقافة قوية وغنية وراسخة، ولكننا نعاني في المقابل من ثلاث مشاكل أساسية يجب أن نعمل جاهدين لرفعها وهي:

1. عدم تضامننا وانسجامنا، لأننا لم نعمل بالآيات القرآنية والأحاديث الإسلاميّة الداعية إلى الوحدة والاتحاد والتضامن، إذ أحياناً نلاحظ أنّ جميع رؤساء الدول الإسلاميّة يجتمعون في مؤتمر واحد ويتباحثون ويتفاوضون فيما بينهم ظاهرياً، ولكنهم بعد انفضاض الجلسة والاجتماع يطعنون ظهور بعضهم بعضاً.

2. عدم تمييز الصديق من العدو، لذا يقوم بعض المسلمين المنحرفين بمدّ أيديهم ووضعها في يد أمريكا وإسرائيل حتى يقضوا على حزب الله في جنوب لبنان الذي يشكل رمزاً للمقاومة والصمود.

وقد شهدنا ذلك أثناء الحرب المفروضة التي شنّها النظام العراقي على إيران إذ شهدنا أنّ أغلب الدول الإسلاميّة قد وضعت يدها في يد بعض لدعم النظام العراقي للقضاء على الثورة الإسلاميّة وإيران، فهل تعتبر إيران عدواً للدول الإسلاميّة على الرغم من أنّها لم تحتل شبراً واحداً من أرضهم أو تقتل شخصاً واحداً منهم بدون

ص: 50

حق؟ أو أمريكا وإسرائيل اللتين تحتلان أجزاء واسعة من أراضي دول كلبنان وسوريا والأردن وفلسطين، متسببة بقتل أكثر من مليون شخص في العراق أليس هؤلاء هم الأعداء؟

من الذي أفشل خطة إسرائيل وجعلها تتخلى عن خريطتها دائمة التوسع لتنكفئ وتكفّ عن التوسع في الأراضي الإسلاميّة؟ ألم يكن حزب الله الذي حطّم أسطورة العدو الإسرائيلي في أنّه لا يقهر أثناء حرب الثلاثة والثلاثين يوماً وأجبر إسرائيل على الانسحاب؟

نعم، لو عرفنا وميَّزنا نحن المسلمين بين أعدائنا وأصدقائنا لما وصل حالنا إلى هذا السوء.

3. إنّ وسائل إعلامنا نحن المسلمين تعاني ضعفاً شديداً، على العكس من اليهود الذين يسيطرون على وسائل الإعلام العالمية، ويقومون بتحليل ونشر وبثّ أخبار العالم بالشكل الذي يناسب أهدافهم وسياساتهم، فإذا كان لدى مسلمي العالم الذين يشكّلون ربع عدد سكانه وسائل إعلام قوية وشاملة، لاستطاعوا أن يوصلوا حقائق الدين الإسلامي، منها الآيات التي نقوم ببحثها إلى العالم، ممّا كان يؤدي بلا شك إلى إحباط الدعايات المسمومة والكاذبة للأعداء.

نعم، إنّ فرقة المسلمين وعدم تضامنهم وعدم تمييزهم بين العدو والصديق وعدم وجود وسائل إعلام قوية و شاملة بتصرُّفهم هي المشكلات الثلاث الأساسية للمسلمين.

أهداف الحرب في عالم اليوم:

اشارة

في عالم اليوم توجد حروب، كما أنّ في الشريعة الإسلاميّة حروب كذلك، أمّا أهداف الحروب في نظر الإسلام تختلف بشكل مطلق عن أهداف ودافع عالم اليوم للحروب، وأنّ عالم اليوم لا سيما الغربيين يسعون إلى تحقيق ثلاثة أهداف من إشعال الحروب وكلها غير مقدسة وهي:

ص: 51

أ) الاستيلاء على مصادر ومنابع الثروة لدى الآخرين:

إنّ أحد أهداف الحروب في عالم اليوم يتمثل في السيطرة والإستيلاء على منابع ومصادر الثروة لدى الآخرين، فمثلًا عندما يلاحظ عبدة الدنيا أنّ منطقة الخليج الفارسي تختزن منابع نفطية هائلة وواسعة، فإنّهم يسعون لإشعال أنواع الحروب فيها للحصول على هذه الثروة القيمة، ويوجدون الغدة السرطانية المسماة بإسرائيل في قلب الدول الإسلاميّة، ويقومون بنهب الثروات الطبيعية للدول الإسلاميّة بمساعدة ذلك الكيان الغاصب، لذا نلاحظ أنّهم لا يشعلون الحروب في المناطق التي لا مصلحة مادية لهم فيها.

ب) الحصول على أسواق لصرف منتجاتهم:

إنّ ما تنتجه صناعات بعض الدول تفيض عن حاجتها الداخلية، فنراها في سعي وبحث دؤوبين لأسواق بهدف تصريف بضائعهم، وقد تحدّد عدّة دول صناعية دولة معينة لتصدير بضائعها إليها، ولغاية الاستيلاء والسيطرة على سوق تلك الدولة فإنّهم يقومون بإشعال الحروب فيما بينهم، حتى يقوموا ببيع بضائعهم التي قاموا بإنتاجها بتكاليف قليلة يقومون ببيعها بمئات أضعاف قيمتها وبالتالي يملؤون جيوبهم من تلك الأموال.

ج) تعزيز مراكز نفوذها وسلطتها والسعي للتفوق والتسلط:

لقد كانت بعض الدول مثل ألمانيا أثناء حكم هتلر والحزب النازي يسعون إلى التفوّق العرقي، وبعض الدول الأخرى مثل أمريكا أو الدول الأوربية تسعى إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، لذا تعمل على بسط نفوذ أمريكا أو أوربا في العالم، وهم في هذا السبيل ليس لهم طريق إلّا إشعال الحروب في أنحاء العالم.

ص: 52

الشعارات الكاذبة لمشعلي الحروب:

اشارة

لا يدّعي أحد من مشعلي الحروب في العالم المادي هذه الأيام أنّهم يقومون بذلك لرضى الله، ولكنهم يمتلكون ذرائع لخلق تلك الحروب والوصول إلى أهدافهم الثلاثة المذكورة، وتحت غطاء هذه الذرائع الثلاثة يشعلون الحروب.

1. حقوق الإنسان!

تتذرع بعض تلك الدول المذكورة التي تسعى إلى تحقيق الأهداف الثلاثة المذكورة بحقوق الإنسان، ويهيئون الرأي العام العالمي لذلك بدعاياتهم لشن الحرب على دولة ما، ثم يقومون تحت غطاء ذلك الشعار الكاذب بالهجوم على تلك الدولة ويحتلونها، ولكنهم في الحقيقة يسعون بتحقيق أهدافهم المذكورة.

2. الديمقراطية!

إنّ حكم الشعب عبر الشعب هي ذريعة أخرى بيد مشعلي الحروب، فقاموا بحملتهم على العراق ليسقطوا الحكومة الديكتاتورية الصدامية المجرمة ويخلقوا الديمقراطية في ذلك البلد، هذا الشعار كان ظاهر القضية، ولكن الهدف الواقعي تتمثّل في آبار النفط في العراق.

3. الحرية!

إنّ الغطاء الكاذب الآخر لمشعلي الحروب يتمثل في عدم وجود حالة الحرية في الدولة التي ينوون الهجوم عليها، فيحتلون الدول الأخرى للتبشير بالحرية، وباسم الحرية يسيطرون على شعوب و حكومات تلك الدول بهدف تحقيق أهوائهم الشخصية.

ولعل من المثير للاهتمام أن مشعلي الحروب أنفسهم ليسوا متمسكين أبداً بحقوق الإنسان والديمقراطية والحرية، إذ ما هو حجم مراعاة حقوق الإنسان في أمريكا؟

ص: 53

وما هي الهوة التي تفصل أصحاب البشرة البيضاء عن الزنوج في أمريكا؟

وهل توجب حقوق الإنسان أن نلاحظ في كثير من مدنهم وجود فنادق ومطاعم ومواقف للسيارات خاصة بالسود و أخرى خاصة بالبيض، منفصلة بعضها عن بعض بحيث لايحقّ لأصحاب البشرة السوداءأن يستفيدوا أو يستعملوا الأماكن الخاصة بالبيض؟

ألم تجر انتخابات حرّة في فلسطين المحتلة، ولكن بما أن نتيجة تلك الانتخابات جاءت على خلاف رغبات أمريكا أو إسرائيل فإنّهم لم يقبلوا الحكومة الفلسطينية الشرعية؟ وكذلك في العراق المحتل فإنّه على الرغم من سعي الأمريكيين والإسرائيليين للحيلولة دون وصول حكومة منبثقة عن الشعب، لكنهم فشلوا فعملوا على معارضتها لأنّها لا تطابق ميولهم.

وحول الحرية فإنّ ملف هؤلاء مظلم وشديد السواد، إذ عندما يقوم شخص ما بإنكار ارتكاب النازيين لمجازر بحق اليهود أو المحرقة اليهودية، أو أراد أن يتحدث في هذا المجال أو يبحث فيه أو أن يكتب مقالة فإنهم يلجؤون إلى قتله أو إلقائه في السجن، ما هذه الحرية التي تتعامل مع العالم بهذا الشكل؟ تلك كانت أهداف الحروب في عالم اليوم، والتي تُشعَل تحت ستار حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية في أنحاء العالم.

أهداف الحرب في الإسلام:

اشارة

إنّ للإسلام أهدافاً أخرى من الحروب، تتجاوب مع الفطرة الإنسانية السليمة، ولأجل توضيح هذا البحث نتوجه إلى القرآن الكريم الذي يعتبر أهم وأصل التعاليم الإسلاميّة، حيث تتضح من تلك الآيات أربعة أهداف للحروب، نوردها فيما يلي:

1. الدفاع عن كيان الإسلام والمسلمين:

اشارة

من أهداف الحروب من وجهة نظر الإسلام الدفاع عن النفس والمال والعرض،

ص: 54

فإذا قام العدو بالهجوم علينا واستهدف أموالنا وأعراضنا وأنفسنا، فهل ينبغي علينا الصمت والسكوت وتلقي ضربات العدو والتعرض للفناء؟ أو أن من حق الإنسان الذي يتعرض للهجوم الدفاع عن نفسه بناء لحكم العقل والشرع؟

لا شك أنّكم تختارون الخيار الثاني، وما يجلب الاهتمام أنّ أغلب الحروب الإسلاميّة كان لها جانب دفاعي، إذ كان المسلمون في مكة طوال السنوات الأولى لظهور الإسلام يتعرضون لضغوط شديدة من الكفار والمشركين الذين كانوا يفرضون عليهم مختلف أنواع الأذى والعذاب، فجاء المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وطلبوا منه الإذن بقتال الأعداء والمشركين، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاهم إلى الصبر، حتى أُجبِرَ المسلمون على الهجرة، وهناك في المدينة المنورة أذن الله عزّ وجلّ للمسلمين الذين تعرضوا للظلم والإساءة أن يدافعوا عن أنفسهم ونزلت آيات متعددة حول الدفاع في المدينة، نشير إلى نماذج منها فيما يلي:

أ) يقول تعالى في الآية (39) من سورة الحج التي يعتقد جمع من المفسرين أنّها الآية الأولى التي نزلت في الجهاد (1): أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.

هذه الآية الكريمة صريحة في الحرب الدفاعية، وتأذن للمظلومين أن يدافعوا عن أنفسهم في مواجهة ظلم الظالمين، ولذلك نخاطب الذين يزعمون أن الإسلام قد انتشر بقوة السيف ما ردّكم في مقابل هذه الآيات؟

ب) الآية الثانية التي تدلّ على مدّعانا، وفي اعتقاد بعض المفسرين أنّها أوّل آية نزلت في الجهاد الدفاعي (2) هي الآية الشريفة (190) من سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تصرّح هذه الآية الشريفة بأنّه إذا تعرضتم للهجوم فيجب أن تقاتلوا وتدافعوا عن


1- التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.
2- المصدر السابق.

ص: 55

أنفسكم، ومع ذلك اجتنبوا الإفراط في الحرب الدفاعية كذلك.

نعم، من وجهة نظر الإسلام، أثناء المعارك والقتال فإنّ للأطفال والشيوخ والحيوانات والأشجار ومياه الشرب عند الأعداء حق الأمان، وإن استخدام أسلحة الدمار الشامل ممنوع في الإسلام.

عندما نحرّم السلاح الذري ولا نسعى لامتلاكه، فإنّ لهذا الأمر جذوراً في عقيدتنا الدينية لأنّ السلاح الذري يتسبب في قتل الأبرياء وغيرهم من النساء والرجال والمرضى وغيرهم، الصغار والكبار، والإسلام الذي لا يسمح بمنع العدو من شرب الماء كيف يجيز صنع السلاح الذري؟

إنّ عالم اليوم يستعدّ للحرب، والغربيون دعاة الحروب والقضاء على الإنسان يعتبرون أنفسهم متحضّرين ويعدّون الإسلام من الأمور التاريخية المتعلقة بالماضي، فهل تتجاوب البرامج الإسلاميّة حول الحرب مع فطرة الإنسان أكثر، أو تلك البرامج غير الإنسانية لأولئك الأشخاص الذين قاموا بقتل الآلاف من الأشخاص عبر إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي، وخلَّفوا أعداداً أكبر من الجرحى ممّن يعانون حتى اليوم من آثار تلك القنابل؟

ج) الآية (13) من سورة التوبة من الآيات الأخرى التي تسلّط الضوء على الجهاد الدفاعي:

يقول تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّة أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

طبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ المسلمين مكلّفون بقتال من بدأهم بالقتال، والذين قاموا بإخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم، والذين لم يفوا بعهودهم ومواثيقهم تجاههم في استمرار العداوة، فهل يعد مثل هذه الحرب غير مشروعة في أي دين أو مذهب أو عقل أو منطق؟

نعم، قد تظهر مجموعة في العالم ممّن لا تقبل القتال والجهاد بأي وجه حتى

ص: 56

الدفاعية منه، وهي الفرقة الضالة البهائية، وهم يرتكزون على مبدأين أساسيين، يؤمن به أفراد هذه الفرقة الضالة ويتمسكون بهما:

عدم التدخل في السياسة.

ترك القتال والجهاد.

وإنّ فلسفة وجود هذه الفرقة الضالة المضلة ترتكز أساساً على هذين الأمرين، لأن المستعمرين لا يستطيعون أن يتعاملوا مع الإسلام السياسي والجهادي، الذي يرون فيه عقبة أمام مصالحهم ومطامعهم، لذا قاموا بخلق مذهب ليس له أي علاقة بالسياسة ولا يؤمن بالجهاد، وقد قام الأمريكان أخيراً بالضغط على بعض الدول الإسلاميّة للعمل على حذف ثلاث مجموعات من الآيات القرآنية من الكتب الدراسية للطلاب وهي:

1. الآيات المتعلقة بالجهاد.

2. الآيات المتعلقة بالشهادة.

3. الآيات التي تذمّ اليهود وتتحدث عن ذلك.

وفي هذه التوصيات رسالة هامة للمسلمين وهي:

(يجب على المسلمين أن يهتموا بهذه المجموعات الثلاث من الآيات ويعرّفوا أبناءهم أكثر من ذي قبل عليها).

إنّ الإسلام يأمر المسلمين ألا يسكتوا مقابل ظلم الظالمين بل أن يقوموا ويثوروا عليهم، حتى وإن كان عدد هؤلاء المظلومين قليلًا، وعليهم ألّا يخشوا القلّة لأنّ الله سوف يؤيدهم بنصره.

لقد انتصر حزب الله في لبنان على عدو مسلّح حتى العظم مع قلة العدد، لأنهم توكلوا على الله فأيدهم بنصره.

وقد استطاع الشعب الإيراني الشجاع و العزيز أن يقف أمام جيش العراق الذي كان يستمدّ دعمه من كافة قوى المنطقة والعالم وذلك بالاستعانة على الله والتوكل عليه.

ص: 57

د) الآية (90) من سورة النساء من الآيات الأخرى التي تؤيد الجهاد الدفاعي يقول تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.

إنّ هذه الآية الشريفة تأذن باستمرار الحرب ما دام العدو مستمراً فيه، فبمجرّد قيام العدو بإلقاء سلاحه والتوقف عن الحرب، فإنّ المسلمين مكلّفون بالتوقف عن الحرب كذلك وقبول الهدنة، فلو كان الإسلام قد انتشر في ظل السيف فلا يجب أن تكون تعليماته تحتوي مثل هذه التعليمات الراقية.

يقول الإمام علي عليه السلامفي خطابه إلى مالك الأشتر:

وَلا تَدفَعَنّ صُلحاً دَعاكَ إليهِ عَدوّكَ وَللهِ فِيهِ رضىً، فَإنّ فِي الصُّلحِ دِعةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأمناً لِبلادِكَ، وَلكن الحَذر كُلَّ الحَذرِ مِنْ عَدوّكَ بَعدَ صُلحِهِ، فَإنّ العَدوّ رُبَّما قَاربَ لِيَتغَفلَ فَخُذ بِالحَزمِ، واتّهم فِي ذلكَ حُسنَ الظَّنِ

(1).

ه-) الآيتان (8) و (9) من سورة الممتحنة من الآيات الأخرى التي تدل دلالة واضحة على الجهاد الدفاعي: يقول تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

وقد استدللنا في الفقه بهذه الآية الشريفة على أنّ الاحترام لا يشمل الكفار الذميين فحسب بل يشمل جميع الكفار غير الحربيين منهم، وبناء على هذه الآية الكريمة لا يحقّ لنا نحن المسلمين قتال الدول التي لا تقاتلنا فحسب، بل إننا نستطيع أن نقيم معها علاقة صداقة، وإن قطع علاقة الصداقة يشمل فقط الدول التي هي في حال حرب مع المسلمين والذين قاموا بإخراج المسلمين من ديارهم وأموالهم وشرّدوهم.


1- نهج البلاغة، الرسالة 53.

ص: 58

وبناء على هذه الآية الكريمة، لا يحقّ لأية دولة إسلاميّة أن تقيم علاقة مع أمريكا وإسرائيل اللتين قد تلطخت أيديهما بدماء المسلمين، ألم تقم إسرائيل بتشريد المسلمين الفلسطينيين بدعم من أمريكا، لذا كيف تقوم بعض الدول الإسلاميّة بمدّ يد الصداقة إلى هذه الدولة الغاصبة؟

و) يقول تعالى في الآية (60) من سورة الأنفال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ء فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ

لقد أكدت هذه الآية الكريمة على ثلاث نقاط أساسية وهي:

أ) الجهوزية الكاملة بكلّ القدرة والقوّة:

كلّفنا الله تعالى بهذه الآية الكريمة أن ندافع عن كيان الإسلام والمسلمين مستعينين بكافّة قوتنا، وأنّ مفهوم القوة الواردة في الآية الكريمة واسع وكبير، إذ قد يتصور البعض أنّ معنى القوّة محصور في الأسلحة الحربية المختلفة (طبعاً ماعدا أسلحة الدمار الشامل المحرّمة في نظر الإسلام) ولكن مفهوم القوة أوسع من ذلك بكثير ولا ينحصر به فحسب.

شاهدنا على ذلك حديث منقول عن الإمام الصادق عليه السلامفي تفسير الآية المذكورة أعلاه في كتاب (من لا يحضره الفقيه) حيث يقول:

وَمِنها الخِضابُ

(1)، يعني إذا ابيضّ شعر رأس أو وجه ولحى الضباط والجنود المسلمون فيجب عليهم أن يخضبوه ويصبغوه لكي يظهروا أنفسهم أمام العدو شباباً ويتمتعوا بأبهة وقوّة وهيبة أكبر، وبناء على هذه الرواية فإنّ القوّة تشمل أيضاً صبغ الشعر وكل ما يؤدي إلى إرعاب العدو وإرهابه وخفض روحه المعنوية وهذا دليل على سعة مفهوم القوّة.

ولهذا فإنّ استعمال وسائل الإعلام والدعاية والتمتع بالاطلاع على المسائل


1- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 70، ح 282.

ص: 59

السياسية والآليات الاقتصادية والشؤون الثقافية وأمثال ذلك تعدّ جميعاً من مصاديق هذه الآية الشريفة.

ب) التجهيز بأنظمة القتال الفعّالة:

يؤكد الله سبحانه وتعالى بعد تشجيع وتحريض المسلمين على الاستعداد الشامل، على ضرورة استخدام الخيول المجهزة والمدربة في ما يتعلق بالتجهيز العسكري، ففي النقطة الأولى حكم عام كلي، أمّا في النقطة الثانية فيشير إلى أحد مصاديق ذلك الحكم الكلي الذي يتمتع بأهميّة عالية، وقد كان مصداقه في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله هي الخيول المدربة المجهزة لميادين القتال، وفي الأزمنة الأخرى مثل عصرنا الحالي فإنّ لهذا الأمر مصاديق أخرى تشمل الدبابات والمدفعية والطائرات والصواريخ وأمثال ذلك.

ج) إرعاب العدو:

النقطة الثالثة التي تعدّ في الحقيقة ثمرة النقاط السابقة وأهم نقطة فيها يتمثّل في إرعاب العدو وإخافته، أي يجب على المسلمين أن يكونوا جاهزين من حيث الإمكانات العسكرية والدفاعية بالمستوى الذي يخلق حالة من الهيبة والأبهة في جيش المسلمين التي تؤدي إلى إيجاد حالة من الرعب والخوف في قلوب الأعداء، بحيث يطردون من أذهانهم التفكير بالهجوم على الدولة الإسلاميّة.

فهل اطّلع أعداء الإسلام على هذه الجملة ليتهمونا بأننا نسعى للحروب؟

نعم، من وجهة نظر الإسلام فإنّ التجهيزات العسكرية والاستعدادات القتالية والدفاعية عندما تصل إلى حدها الأعلى ليس بهدف خلق الحروب وسفك الدماء والدمار وتكبيد الخسائر في الطرف المقابل، بل يتم ذلك كلّه لمنع الحرب، فهل يستهجن أي عاقل في العالم سواء كان متمسكاً بدين أو مذهب أو لا مثل هذا الأمر

أو لا؟

ص: 60

إنّ الإسلام وبهدف منع الحروب التي تحمل معها الخسائر الروحية والنفسية والمالية والجسدية الكبيرة، يدعو المسلمين إلى أن يصلوا إلى حالة من القوّة والقدرة لئلا يسمحوا للعدو أن يفكر بالهجوم عليهم، وفي نفس الوقت لكي يحفظوا حال العزة والكرامة فيهم.

وبالنتيجة، تلك كانت من أهداف الحرب من منظور القرآن الذي يتمثل بالدفاع عن كيان الإسلام والمسلمين.

2. حماية المظلومين والدفاع عنهم:

اشارة

يأمر الإسلام المسلمين بمقاتلة الظالمين لحماية المظلومين وإنقاذهم من ظالميهم حتى وإن كان المظلوم غير مسلم.

وإنّ الآية الشريفة (75) من سورة النساء وثيقة دامغة على هذا المدّعى، حيث يقول تعالى: لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً

نظراً إلى الآية الشريفة، فإننا لن نتعجب إذا رأينا الشعب الإيراني العزيز ينادي بشعار الدفاع عن الشعوب المظلومة في فلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق والبوسنة وسائر الشعوب الأخرى التي تتعرض وتعرضت للظلم من قبل الظالمين، لأنّه يعمل بمضمون هذه الآية الكريمة، ويجب المسارعة لتلبية نداء كل مظلوم في أي مكان في العالم من أمريكا حتى إفريقيا ومن أوروبا حتى آسيا وأستراليا لتقديم العون والمساعدة له ضمن حدود الطاقة والإمكانات، وإنقاذه من براثن الظالمين، لئلا يتجرؤوا على تكرار ظلمهم، وإنّ العجب من بعض الدول الإسلاميّة الذين لا يكتفون بعدم حماية المسلمين الواقعين تحت نير الظلم في فلسطين خلافاً للآية

ص: 61

الكريمة التي نبحث فيها، ولا يقومون بإنقاذ هذا الشعب المظلوم من براثن الصهيونية المحتلة، بل إنّهم يبادرون إلى إقامة علاقات مع الأعداء وتبادل السفراء معهم، ويضعون أيديهم في أيدي اليهود الظالمين للإطاحة بالحكومة الشعبية للشعب المظلوم في فلسطين.

ولهذا طبقاً للآية الشريفة (75) من سورة النساء يجوز القتال لحماية المظلومين وإنقاذهم من ظلم الظالمين.

حماية المظلوم في الروايات:

توجد روايات متعددة في تأييد مضمون الآية المباركة التي يتم البحث عنها نشير إلى نماذج منها:

1. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:

مَنْ أَخَذَ لِلمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ مُصاحِباً

(1).

لا ريب أنّ منزلة كثير من الناس سوف يكون في الجنّة، ولكن كثيراً منهم لا يحظون بشرف سعادة مجاورة رسول الله صلى الله عليه وآله هناك، ولكن مساعدة المظلوم وأخذ حقّه وحمايته من الظالم تعتبر على درجة من الأهميّة حيث يكون الإنسان الذي يقوم بذلك مجاوراً لرسول الله صلى الله عليه وآله في الجنّة.

2. وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:

مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُنادِي ي- ا لِلمُسلِمِينَ فَلَم يُجِبْهُ فَلَيسَ بِمُسلِم

(2).

إنّ هذه الرواية كذلك عامة وشاملة لغير المسلمين أيضاً، وبناء على الآية المذكورة أعلاه فمن سمع نداء استغاثة من مظلوم وكانت له القدرة في إجابته ولم يسارع فإنّه ليس بمسلم، ولكم أن تقارنوا هذا التعليم الإسلامي الراقي مع سلوك


1- بحار الأنوار، ج 75، ص 359، ح 75.
2- المصدر السابق، ج 74، ص 339، ح 120.

ص: 62

عبدة الدنيا والمال في عالم اليوم، إذ إنّهم يصرّحون: (إننا نقوم باستثمار رؤوس أموالنا في المناطق التي لنا فيها مصلحة، فلو تمّ القضاء على مئات الألوف في البوسنة والهرسك فإنّ ذلك لا يهمنا لأنّه ليس لدينا مصالح في تلك المنطقة) فهل يعتبر الإسلام مع هذه المعارف الراقية التي يمتلكها داعياً للحروب؟ أو هؤلاء عبدة الدنيا والمال الذين يسارعون للحضور في أقصى نقاط العالم إذا شموا رائحة مصالح وأموال فيها وذلك للاستيلاء عليها، فيقوم بإشعال الحروب في تلك المنطقة وتشريد أهلها؟

3. يقول الإمام علي عليه السلامفي خطاب لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام)، ما يلي:

كُون- ا لِلظَّالِمِ خَصماً وَلِلمَظْلُومِ عَوناً

(1)، ففي هذه الآية ليس هناك حديث عن المسلم وغير المسلم، ولهذا فإنّ الدفاع عن المظلوم واجب على كل مسلم حتى ولو كان المظلوم غير مسلم.

4. يقول الإمام السجاد عليه السلامفي كتابه القيم (الصحيفة السجادية) في الدعاء 38، مايلي:

اللّهُمَّ إنِّي أعْتَذِرُ إِلَيكَ مِنْ مَظْلُوم ظُلِمَ بِحَضرَتِي فَلَم أنْصُرْهُ وَمِنْ مَعرُوف أُسدِي إليَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ وَمِنْ مُسِي ء إِعْتَذَرَ إِليَّ فَلَم أَعْذِرْهُ

. أولًا: يعتبر الإمام السجاد عليه السلامعدم مساعدة المظلوم بمثابة عدم تقدير نعمة المنعم، وعدم قبول معذرة والمعتذر خطأً ومعصية، لذا فإنّه يعتذر عن تقصيره إلى الله في ذلك.

ثانياً: مع العلم بأنهّ إمام معصوم ولا يخطئ أو يرتكب معصية، فإنّه يذكر هذا الأمر، ليوجهنا حتى إذا ارتكبنا نحن هذه الأخطاء أن نتوب عنها.

ثالثاً: كما نحبّ أن يبادر الآخرون لرفع الظلم عنّا إذا وقعنا مظلومين، وكما نرغب أن يقدر الآخرون العمل الذي نقوم به لهم، وأن يعذرونا إذا بدر منّا أي خطأ أو


1- ميزان الحكمة، ج 6، ص 2350، الباب 246، ح 11483.

ص: 63

تقصير، فيجب علينا أن نتعامل مع الآخرين على أساس ذلك، وذلك عبر مساعدة المظلوم وتقدير عمل الآخرين وقبول عذرهم، ومن العجيب أن نتوقع من الله عزّ وجلّ إجابة دعواتنا في مظانّها بالعفو عن جميع معاصينا وسيئاتنا وجرائمنا، لكننا في المقابل، بالنسبة للأخطاء التي تبدر من الآخرين نكنّ الحقد لسنوات عليهم ولا نقبل بأي حال من الأحوال أن نغفر لهم أو نعفو عنهم، فلو كان الناس من أهل العفو والصفح ولم يتشددوا في هذا المجال لأغلقت الكثير من الملفات في المحاكم.

3. إيقاف المواجهات بين الدول الإسلاميّة:

اشارة

إنّ الهدف الثالث من الحروب في المعارف الإسلاميّة هو إيقاف المواجهات والمنازعات التي يمكن أن تحدث بين قبيلتين مسلمتين أو بين دولتين إسلاميتين.

وهذا ما يعبّر عنه في هذه الأيام بقوات حفظ السلام في العالم، وتشير الآيتان (9) و (10) من سورة الحجرات إلى هذا النوع من الجهاد، حيث يقول تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

ونستفيد من الآيتين الكريمتين نقاطاً هامة هي:

أ) يجب أن لا يقف المسلمين في قبالة النزاعات الفردية أو الجماعية بين المسلمين الآخرين موقف المتفرج، (كما نلاحظ في حالات عديدة هذه الأيّام للأسف الشديد) بل يجب المبادرة إلى إيقاف تلك المواجهات والنزاعات وإقامة السلام والصلح بين الطرفين المتنازعين.

ب) إذا قام المسلمون المسؤولون الذين يعرفون مهامهم بدورهم في إيقاف المنازعة، ولكن أحد طرفي النزاع لم يكن حاضراً لترك المنازعة والتوجه إلى

الصلح، عندها يلزم على المسلمين أن يحاربوا الطاغي منهما واللجوء إلى القوّة لدفعه إلى التخلي عن النزاع والتوجه نحو الصلح.

ج) بعد قبول طرفي النزاع لدعوات الصلح وإعلان الهدنة، عندها لا يجب أن يترك الأمر على حاله بل يجب التحقيق في سبب ذلك النزاع ومنشئه، وذلك منعاً لتكرار النزاع مجدداً بالقضاء على جذوره.

د) يجب أن يكون الإصلاح على أساس العدل لا على أساس الأهواء الشخصية الرغبات النفسانية.

ص: 64

سبب النزول:

كانت قبيلتا الأوس والخزرج اللتان تسكنان في المدينة المنورة وتعدّان من الأنصار، وتتنازعان بينهما في الجاهلية، وبفضل الإسلام انتهت نزاعاتهما ومواجهاتهما الطويلة، ومع ذلك بقي بعض ما ترسّب من ذلك في النفوس، ولهذا تواجهت تلك القبيلتان مع بعضهما أحد الأيّام، ويظن البعض أنّ شخصين من القبيلتين كان بينهما اختلاف ونزاع، وقد تصاعد النزاع بينهما بحيث وصل إلى مرحلة المواجهة وقامت كل قبيلة بدعم من ينتمي إليها وفي النتيجة اشتعلت حرب بين القبيلتين فنزلت الآية الكريمة حول هذه الحادثة.

ماذا فإنّ الآية الشريفة تعتبر إيقاف النزاعات والخصومات بين المسلمين من أهداف الحرب في الإسلام، فهل طالع من يتهم المسلمين بالعنف والدعوة للحرب الآيات المذكورة أعلاه؟ هل كانوا يعلمون أنّه ورد لفظ الصلح والسلم ثلاث مرات في آيتين من القرآن الكريم؟

وهل عملنا نحن المسلمين بهذه الآيات؟

وهذا ما شهدناه في أفغانستان حيث عانت تلك البلاد لسنوات طوال من الحروب وسفك الدماء والقتال بين الطوائف المختلفة الإسلاميّة، حيث كانوا يقتلون

بعضهم بعضاً، فهل تدخلت الدول الإسلاميّة لإيقاف تلك المنازعات؟ فإن كانت دولة مثل إيران تدعو لوقف هذه الحروب فإنّه للأسف الشديد لم تقم باقي الدول بالتعاون معها.

لقد قامت الأمم المتحدة ومجلس الأمن في إرساء قوّة باسم قوّة السلام وهي مجموعة من قوات عسكرية تنتمي إلى دول عديدة وقد قامت لحد الآن بتقديم خدمات جيدة في هذا المجال، أمّا الإسلام فقد طرح منذ 1400 سنة مبدأ ضرورة وجود قوّة لحفظ السلام، ولكن لم يعمل المسلمون به والتقصير يقع علينا.

ونرى في أيّامنا الحالية ما يجري في العراق، حيث تتقاتل المجموعات المختلفة مع بعضهم بعضاً ونلاحظ أنّ عدّة آخرين يقفون موقف المتفرج، وتقوم عدّة أخرى خلافاً لتوصيات القرآن الكريم بصبّ الزيت على النار لإشعال الحروب فيما بينهم فإن كانت أمريكا وانجلترا ترغب في تشديد هذه النزاعات فيما بين الأخوة في العراق وتدعم ذلك فهذا ليس مجال للتعجب، لأنّ هؤلاء هم الأعداء الأساسيون للمسلمين، ولكن العجب من المسلمين الذين يقومون بإشعال تلك الحروب وزيادة أوارها!

ص: 65

واجب المؤمنين تجاه بعضهم بعضاً:

لقد بينت الروايات الإسلاميّة موقف المؤمنين والمسلمين تجاه بعضهم بعضاً وواجبات كل منهم تجاه الآخر، ومنها:

1. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:

المُؤمِنُ أَخو المُؤمِنِ كَالجَسدِ الواحدِ إنْ اشْتَكَى شَيئاً مِنْهُ وَجَدَ أَلَم ذَلِكَ فِي سَائِرِ البَدنِ

(1).

بناء على هذه الرواية فإنّ المسلمين في سائر العالم كالجسد الواحد إذا اشتكى مسلم منه في أقصى أرجاء المعمورة من ألم أو مرض أو مشكلة فإن باقي المسلمين

يجب أن يتأثروا من ذلك ويسعوا لحل تلك المشكلة ورفع ذلك الحيف (2)، فإن وقع زلزال في (بم) وذهب ضحيته الآلاف وشرّد الآلاف من غيرهم، وإن وقع طوفان تسونامي في دولة إسلاميّة في شرق آسيا وذهب ضحيته الآلاف الكثيرة ممن فقدوا أعزاءهم وشرِّدوا من منازلهم، وإن نشبت حروب في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وسلبت الطمأنينة والهدوء عن سكان تلك المناطق، وإن سيطر المرض والقحط على سكان بلد ما فيجب على المسلمين في مواجهة ذلك كله، أن يبدوا رد الفعل المناسب، ويسارعوا ضمن إمكاناتهم وطاقاتهم أن يدعموهم ويساعدوهم، كما يجري عندما يصاب عضو من جسد الإنسان بالمرض فإن كامل الجسم يعاني من السهر والحمى ويقوم بمضاعفة نشاطاته لإنقاذ ذلك العضو من الألم والتعب.

2. يقول الإمام علي عليه السلاموهو على فراش الشهادة لولديه العزيزين الحسين والحسين (عليهما السلام) ما يلي:

أُوصِيكُمَا، وَ جَمْيِعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ

(3).

ويقول المفضل بن عمر: (أعطاني الإمام الصادق عليه السلاممقداراً من المال حتى أحلّ به النزاعات بين شيعته على الأمور المالية، فوجدت نفرين منهم يتنازعان، وبعد التحقق والاستفسار تبيّن أن منشأ نزاعهما سببه أربعمائة درهم، فأعطيت الأربعة درهم إليهما ورفعت النزاع بينهما، ثم قلت لهما: هذا المال ممّا جعله الإمام الصادق عليه السلامتحت تصرفي لهذا الغرض) (4) ولذلك فإنّ واجب كل مسلم أن يبادر بأي شكل ممكن في سبيل حل مشكلات المسلمين الذين يواجهونها وألا يقف موقف المتفرج حيال ذلك.

3. في كتابه القيم (سفينة البحار) عند ذكره كلمة (هجران) ينقل المرحوم الحاج الشيخ عباس القمي (رحمه الله) حديثاً مؤثراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول:

أَيّما مُسْلِمَينِ تَهاجَرا فَمَكَثا ثَلاثَةَ أَيَّام لَم يَصْطَلِحان إِلّا م- ات- ا خ- ارِجَينِ عَنِ الإِسلامِ

(5).

أيّها القراء المحترمون! إننا نعرف إخوة متخاصمين طوال اثني عشر عاماً بسبب الاختلاف على إرث أبيهم وهذا الأمر قبيح غير مقبول بالنسبة لمسلم، لا سيما إذا كان سبب الخصام والنزاع والهجران المسائل المادية، ولا شك أنّ إصلاح ذات البين وإزالة التوترات بين الناس وإصلاحهم من أهم العبادات، فما الإشكال إذا بادرنا للإصلاح بين الأزواج الذين تنازعوا فيما بينهم لسنوات أو القيام بإرجاع المرأة إلى بيت أبيها وزوجها؟


1- بحار الأنوار، ج 61، ص 148، ح 25.
2- وقد أشار الشاعر الإيراني الكبير مصلح الدين الشيرازي إلى هذه الخاصية البشرية في أبيات مقتبسة من هذا الحديث، وفي مجموعته (گلستان)، الباب الأوّل، الحكاية العاشرة.
3- نهج البلاغة، الرسالة 37.
4- البرهان في تفسير القرآن، ج 2، ص 647، ح 4205.
5- سفينة البحار، ج 8، ص 629.

ص: 66

مجلس حلّ النزاع:

لقد اقترح الله عزّ وجلّ مجلساً لمعالجة النزاعات الأسرية، وحدد أعضاء ذلك المجلس في القرآن الكريم، حيث يؤدي العمل طبق ذلك إلى حلّ الكثير من النزاعات العائلية والأسرية، يقول تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما (1).

فالطلاق آخر طرق الحلّ، ويجب قبل ذلك السعي للإصلاح مهما أمكن، واللافت أنّه يجب اختيار أعضاء هذا المجلس من أفراد الأسرة لحل النزاع، لأنّه يؤدي إلى زيادة فرص النجاح، إذ ما الإشكال أن يتم اختيار شخصين كبيرين من كل عائلة

يقبل بهما الجميع لحل الاختلافات، وإيكال الاختلافات والنزاعات الأسرية إليهما للقيام والمبادرة بحلها وإقامة الصلح والإصلاح فيما بينهم نظراً للمعرفة التي يحظيان بها من طرفي الدعوى.


1- سورة النساء، الآية 35.

ص: 67

4. الحرب لإخماد نار الفتنة:

اشارة

من الأهداف الأربعة للحروب من المنظور الإسلامي، الجهاد لإخماد نار الفتنة حيث أشار القرآن إلى ذلك في الآية (39) من سورة الأنفال حيث يقول تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

ما هي الفتنة؟

لقد وردت كلمة الفتنة في ثلاثين آية من القرآن الكريم، وإنّ دراسة تلك الآيات تشير إلى أن الفتنة قد وردت في القرآن الكريم في خمسة معان نشير إليها فيما يلي:

أ) التعذيب: ذكرت المصادر التاريخية أنّه كان يوجد ملك ظالم في الأزمنة السابقة يقوم بتعذيب المؤمنين وقام بحفر أخاديد لذلك، وملأها ناراً، وكان يقرّب المؤمنين من تلك الأخاديد حتى يخافوا ويتخلّوا عن إيمانهم بالله، ولكنهم أصرّوا على عقائدهم وإيمانهم، ولم يستسلموا لإرادة الملك فألقاهم في تلك الأخاديد فسمي ذلك الملك وأعوانه ب- (أصحاب الأخدود) (1)، وأشار القرآن الكريم في الآية الشريفة (10) من سورة البروج لذلك، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ

ب) الامتحان والاختبار: حيث استخدم هذا المعنى في الآية الشريفة (15) من سورة التغابن حيث يقول تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ حيث يطرح يوم القيامة حول الأموال سؤالان:


1- لمزيد من الاطلاع انظر: التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

ص: 68

1. من أين لك هذا؟

2. فيم أنفقت كل الأموال؟ (1)

والأولاد أيضاً مادة للاختبار والامتحان، إذ هل قمنا بتربية أولادنا تربية صالحة أو تخلّينا عنهم وتركناهم وقصّرنا في أداء حقوقهم؟ وهنيئاً لمن يخرج من هذه الامتحانات ناجحاً وموفقاً.

ج) العذاب الإلهي: إحدى معاني الفتنة هو العذاب الإلهي، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية (25) من سورة الأنفال يقول تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) بناء على هذه الآية الشريفة، فإنّ العذاب الإلهي لا يسلَّط على الظالمين فقط بل يسلطه على من شهد ظلم الظالم ولم يعمل بفريضة النهي عن المنكر، ولا ريب أنّه لا يشمل من أدّى تكليفه الشرعي، وما يقال من أنّه عندما يأتي العذاب والنار فإنه يحرق الأخضر واليابس ليس بصحيح، لأنّه لا يتوافق مع حكمة الباري عزّ وجلّ.

د) المصيبة: إنّ أحد معاني الفتنة (المصيبة) ويشير القرآن الكريم إلى هذا المعنى في الآية (11) من سورة الحج حيث يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْف فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ

وما نسمعه من قول البعض في مجالس العزاء لصاحب المصيبة (جعلها الله آخر مصائبك وأحزانك) لا أساس له، إذ قد يعني (أن تموت قبل جميع أهلك وأقاربك ومعارفك وأصدقائك وزملائك حتى لا تشهد مصيبة فقدهم)، وإلّا فإنّ الإنسان طوال حياته لابد أن يواجه المشاكل والمصائب والمصاعب، ويجب أن يتعامل معها باعتبارها امتحاناً إلهياً، وكلّما وقف بثبات أمامها ولم يستسلم للمشكلات، فإنّ له عند الله أجراً عظيماً.

ه-) الفساد الكبير: وقد ورد هذا المعنى في الآية (73) من سورة الأنفال حيث يقول تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ.

وبناء على هذه الآية الكريمة، يجب على المسلمين أن يقفوا أمام الفساد وعبر النهي عن المنكر باللسان أولًا، ثم عن طريق المبادرات الثقافية، وإن لم ينجحوا عبر الطرق السليمة لدفع الفساد عندها ينبغي أن يلجؤوا إلى القوة ومحاربة العدو، فالفتنة في الآية بمعنى الفساد الكبير، وهي بهذا المعنى أشد وأعظم من القتل كما ورد في الآية (191) من سورة البقرة: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ والآية (217) من سورة البقرة: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ

وما يثيره الأعداء في العراق وأفغانستان وباقي الدول الإسلاميّة من فتن تؤدي إلى ضرب أمن المجتمع هي أشد وأخطر من الجرائم والمجازر.


1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: تَزُولُ قَدمَا عَبد يَومَ القِيامَةِ حَتّى يُسألُ عَنْ أربع: عَنْ عُمرِهِ فِيما أَفنَاهُ، وشَبابَهُ فِيما أبلاهُ، وَعنْ مَالهِ مِنْ أَينَ اكتَسبَهُ وَفِيما أَنفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنا أَهلَ البَيتِ (نفحات القرآن، ج 6، ص 176).

ص: 69

محاربة من يقومون بنشر الشائعات ويخلَّون بالأمن الاجتماعي:

هناك مجموعتان تقومان بضرب أمن المجتمع بشدّة، وهم في الحقيقة يرتكبون الفساد والفتنة، هما ناشروا الفتنة والشائعات والأرذال والأوباش ممَّن يخلّون بالأمن الاجتماعي وقد أشارت الآيتان (60، 61) من سورة الأحزاب إلى ذلك بقوله تعالى:

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا.

كانت هناك مجموعتان تقومان بخلق الفتنة في المدينة هما:

1) مجموعة من المنافقين الذين كانوا يقومون بنشر الشائعات، إما عبر القول بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد مات، أو كانوا يشيعون أن العدو قد هجم على المدينة وأسر الرسول (1).

2) مجموعة من الأوباش وإن كانوا أقلية ولكنهم يضربون أمن المجتمع، وكانوا يأتون إلى المسلمات اللاتي كن يتوجهن إلى المسجد لإقامة صلاتي المغرب والعشاء فيقومون بمضايقتهن أثناء رجوعهن من المسجد ويكمنون لهن في الظلام

1. التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

ويضايقون الفتيات والنساء المسلمات (2).

وكأنّ التاريخ يعيد نفسه إذ نلاحظ أنّ هاتين المجموعتين مرّة أخرى، يمثلون الأعداء الأساسيين للأمن الاجتماعي.

وقد نبّه القرآن الكريم تنبيهاً شديداً تجاه هاتين المجموعتين، حيث يبين بأنّه إذا لم يتخلَّ الذين يقومون بنشر الشائعات والأوباش عن الفساد والفتنة فيجب إعلان الحرب عليهم وإخراجهم من المدينة والبلد وقتلهم أينما ثقفوا.

يتعامل القرآن الكريم في مقابل الفتنة والفساد الاجتماعي تعاملًا شديداً، لأنّ الحياة في مثل هذا المجتمع يكون صعباً جدّاً، ولهذا يجب الحفاظ على الأمن الاجتماعي للمجتمع بأي ثمن كان حتى إنّ الإسلام في سبيل ذلك قد سمح بإعلان الحرب تجاه المخلين بالأمن الاجتماعي.


1- التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.
2- التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

ص: 70

مثيرو الفتنة العالميون:

للأسف الشديد نعيش في عالم لا يعتبر فيه مثيروا الفتن والساعون إليه قليلين، بل إنّ عجلة حياة الدول الاستعمارية تدور على محور الفتنة والفساد، ويُنقل في هذا المجال من الماضي أنّه كان هناك حاكم لمدينة ما يدير حياته عن طريق الفساد والفتنة، وقد أرسلت الحكومة في تلك الأيّام ضابطاً لائقاً شاباً لإدارة الشرطة وقوى الأمن الداخلي لتلك المدينة، فبذل ذلك الضابط الشاب سعيه وتعبه يومياً بشكل متواصل للقضاء على دعاة الفتنة والمفسدين والأراذل والأوباش عبر احتجازهم وسجنهم، وقام بإعادة الأمن إلى المجتمع، وتوجّه إلى حاكم تلك المدينة لتقديم تقرير عن ذلك، وبعد سماع ذلك الحاكم تقرير ذلك الشاب، فإنّه بَدَلَ أن يقدّر تعبه وجهده ويشكره على ذلك قال له: لقد قمت بعمل سي ء جدّاً، لأنّ الناس عندما يعيشون في أمن بعيداً عن النزاع والشقاق والاختلاف فإنّهم لا يسألون عنا ولا

يطلبوننا، وبالتالي فإنّ ما كنّا نكسبه من ذلك سوف يقضى عليه؟

نعم، إنّ بعض سعاة الفتنة يعيشون من وراء هذا العمل فعلى سبيل المثال، نلاحظ في وسائل الإعلام العالمية لهؤلاء تقديم صورة عن إيران للعالم بأنّها دولة تريد احتلال الدول المجاورة لها.

مع أنّ إيران تدعو إلى السلام والعلاقات الطيبة مع جيرانها، ولكنهم يقومون بذلك ليتمكنوا من بيع أسلحتهم الغالية والمكلفة إلى الدول الجارة لإيران، ويجب على المسلمين أن يستيقظوا ويتعرفوا على مثيري الفتنة ويخرجوهم من صفوفهم ويتحالفوا مع أصدقائهم في الدول الإسلاميّة ويحبطوا مؤامرات هؤلاء من مثيري الفتنة.

ص: 71

الصلح والسلام في الإسلام:

إنّ القاعدة في الإسلام هو السلام، أمّا الحرب استثناء، لأنّ للحرب تكاليف وخسائر غير قابلة للتعويض وتمتد آثارها ونتائجها الصعبة حتى مئة عام أحياناً، وإننا نشبه السلم بالحالة التالية: عندما يقوم السائق الدقيق والمنضبط بقيادة سيارته ضمن معايير السلامة والأمان، فيعود إلى مقصده سالماً معافاً، أمّا حالة الحرب فهي كحالة الحادث الشديد الذي يؤدي إلى كسر يد ورجل السائق وخلع عينيه وكسر أسنانه، وإيذاء بدنه، بحيث إنّ آثار هذه الحادثة قد تستمر مع هذا الشخص وترافقه إلى أربعين وخمسين عاماً تالية، لا سيما في عصرنا الحالي التي أصبحت فيه التكاليف باهظة جدّاً.

وبناء على ما ورد في التاريخ، فإنّ عدد قتلى الحروب التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وآله أو التي خيضت في عصره لم تتجاوز ألف شخص، أمّا الحرب العالمية الأولى فقد وصل ضحاياه إلى عشرة ملايين قتيل وعشرة ملايين من الجرحى والمصابين، وأمّا هدية الحرب العالمية الثانية فقد كانت ثلاثين مليون قتيل، وثلاثين مليون

معاق، وإن شنت حرب عالمية ثالثة- لا سمح الله- فإنّ إحصاءات الخسائر سوف تزيد عن أكثر من مئة مليون، نعم إنّ الحرب مصيبة وكارثة عجيبة وعظيمة ولها نتائج مكلفة.

إنّهم يكررون تهديداتهم للشعوب وشنّ الحروب عليها، وهم في ذلك جاهلون جدّاً، فإذا ألقينا نظرة على دولة العراق التي تعرضت للحروب، نلاحظ أن كل شي ء قد دمِّر فليس هناك أمن أو ماء صالح للشرب بالمقدار الكافي، ولا كهرباء بالمقدار الكافي، وكل يوم تزيد إحصاءات القتلى والجرحى والمعاقين، لذا يعارض الإسلام بشدّة مبدأ الحروب ويدعو بشدّة إلى السلام والصلح، ومادام الأعداء لم يفرضوا حرباً على المسلمين فإنّهم متمسكون بالسلام، أمّا إذا تعدى متعدّ على حريم المسلمين وقام بشن الحروب عليهم، فلن يقصر المسلمون و سوف يواجهون ذلك بحزم وشجاعة.

ص: 72

السلم في القرآن:

لقد ذكرت آيات عديدة في القرآن الكريم السلم وتحدثت عنه، وقد رسم الله عزّ وجلّ في هذه الآيات لوحة جميلة عن السلام حيث نشير إلى بعض منها:

1. في الآية الشريفة (61) من سورة الأنفال يقول تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

إذ يطلق العرب على الصلح السلم والسلام، ولهذا عبر عن الصلح في القرآن الكريم في جميع الموارد بالسلم والسلام إلّا مورداً واحداً، ولعل قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ يكون بمعنى أنّه مع قبول الصلح وإيقاف القتال، فإنّ التوكل على الله ضروري، وكذلك الانتباه والحذر حتى لا يباغت العدو المسلمين ويوقعوه في الفخ، فقد تكون الهدنة فخاً لمباغتة المسلمين من قبل العدو، فربما يلجؤون إلى ذلك كوسيلة أخرى للتغلب والنصر، ولهذا فإنّه في الوقت الذي يتم فيه قبول السلم مع العدو، فيجب أن تتم المحافظة على حالة الاستعداد والرقابة تجاه مؤامراتهم.

2. في الآية (35) من سورة محمد صلى الله عليه وآله نقرأ ما يلي: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ وقد وردت في تفسير عبارة وتدعوا إلى السلم تفسيران:

أ) عندما تكونون على أعتاب النصر فلا تستجيبوا لدعوات العدو للصلح، كما فعل جنود الإمام علي عليه السلام، في حرب صفين، حيث كان القائد البطل لمعسكر الإيمان مالك الأشتر (رحمه الله) قد وصل إلى مقربة خيمة قيادة معسكر الظلمة والظلم ولم يبق إلّا القليل حتى يقضي على حكم الكفر والنفاق لمعاوية، فإذا بهؤلاء المنافقين المرائين قاموا برفع المصاحف على رؤوس الرماح وطلبوا الصلح، فاجتمع عدّة من الجنود الجاهلين من معسكر الإمام علي عليه السلامحوله، وطلبوا منه أن يوقف الحرب ويصالح معاوية الذي استتر وتحصّن بالقرآن، ولكن الإمام علي عليه السلامنبّههم وحذرهم من أنّ هذا الصلح هو صلح كاذب ومن موقع ضعف، والوقت ليس وقت صلح، ولكنهم بإصرارهم وصلوا إلى الحد الذي قالوا فيه: إذا لم يتراجع مالك الأشتر (رحمه الله) عن القتال، فإننا سوف نقتل الإمام علي عليه السلام، فأرسل الإمام علي عليه السلامرسولًا إلى مالك الأشتر يقول: فيه إذا أردت أن يبقى مولاك على قيد الحياة فتخلَّ عن القتال وارجع! وبالنتيجة فإنّه طبقاً لهذا التفسير عندما يكون المسلمون على أعتاب النصر فلا ينبغي قبول اقتراح العدو للصلح.

ب) التفسير الثاني لهذه الآية: ألّا تستكينوا في مقاتلة العدو أو تتهاونوا في محاربته، ولكن إذا كان العدو في المراحل العادية من الحرب، لا على أعتاب النصر مستعداً للصلح والسلام فاقبلوا الصلح معه.

3. يقول تعالى في الآية (94) من سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ.

ذكر المفسرون في شأن نزول هذه الآية مايلي:

أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله سرية (1) من المسلمين، فتحركت بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله نحو مقصدها وأثناء الطريق رأو راعياً معه قطيع من الأغنام يتوجه نحوهم، وعندما وصل إلى سرية المسلمين سلَّم عليهم ونطق بالشهادتين أمامهم، فأخرج أحد المسلمين من عبدة الدنيا سيفه من غمده، وقتل ذلك المسلم الذي أجرى الشهادتين حديثاً، وأخذ أمواله وأغنامه غنيمة (2)، فنزلت الآية الكريمة من سورة النساء.

4. الآية 25) من سورة يونس من الآيات الأخرى التي تتحدث عن السلم والصلح حيث يقول تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراط مُسْتَقِيم وقد ذكر المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان لدار السلام تفسيرين:


1- تطلق السرية على الحروب التي وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله دون مشاركته.
2- التفسير الاثني عشري، ج 2، ص 542.

ص: 73

أ) دار السلام، بمعنى الجنّة التي ليس فيها إلّا السلم والصفاء والصلح والهدوء والراحة والمحبّة، حيث لا يوجد هناك حسد أو حقد أو تنافس أو تنازع أو كذب أو تهمة أو غيبة أو سب أو صفات بذيئة أخرى، بل تحيتهم هناك السلام، ولهذا سميت دار السلام.

ب) دار السلام هي الدنيا، حيث يدعو الله عزّ وجلّ إلى مدينة ودولة وعالم لا يسوده إلّا الصلح والسلام، ولذلك دعي الإسلام بهذا الاسم، لما فيه من حالة التسليم والصلح والسلم والصفاء، وأنّ السلام الذي يتبادله المسلمون في تحياتهم فيما بينهم فيه رسالة الصلح والصداقة أيضاً (1).

وعندما رأى الإمام الحسن المجتبى عليه السلامأنّ الحرب في تلك الظروف الخاصة التي كان يعيشها لا نتيجة لها سوى سفك الدماء، وفي المقابل كان العدو قد قام بشراء ضمائر رؤساء القبائل، كما أن أكياس الذهب أعمت عيون بعض قوّاده البعض الآخر، حتى أنّهم أرسلوا إلى معاوية كتاباً يعلنون فيه استعدادهم لتسليم الإمام

الحسن مقيداً، عندها كتب عليه السلامإلى معاوية كتاباً يخبره فيه استعداده للصلح.

فلم يجد الإمام بدَّاً من الصلح، نعم، إنّ هؤلاء الذين خانوا الإمام علي عليه السلامأداروا ظهورهم للإمام الحسن عليه السلاموسلّوا سيوفهم في وجه الإمام الحسين عليه السلاموقد ذكر العلّامة المجلسي (رحمه الله) سبب صلح الإمام الحسن عليه السلامعلى لسانه كما يلي:

فَتَرَكْتُهُ لِصلاحِ الأِمُّةِ وَحَقْنِ دِم- ائِها

(2).

وإن كان هذا الصلح أدى إلى تهجم البعض على الإمام عليه السلامومن بين هؤلاء الذين تهجموا على الإمام هم نفس أولئك الجبناء الذين أجبروه على الصلح وقاموا بالاعتراض عليه، لذلك عاش الإمام الحسن عليه السلامسنوات مؤلمة في تلك الأيّام، ولكن صلحه قد ترك أثراً عميقاً بين الناس، وكانت مهيئة الأرضية لثورة عاشوراء، والثورات التي تلتها التي آلت في النهاية إلى سقوط دولة بني أميّة.


1- مجمع البيان، ج 5، ص 177.
2- بحار الأنوار، ج 44، ص 30.

ص: 74

الرحمة الإسلاميّة في ميدان القتال:

يقول الإمام الصادق عليه السلام:

عِندَما أرادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله أنْ يُرسِلَ الجُنُودَ إِلئ مَيدانِ القِتَالِ دَع- اهُم وَنَبّهَهُم إِلى نُقاط أَساسية إذا قَامَ جُندِي مِنْهُم بِمُخالَفتِها فإنّهُ سَوفَ يُحاسبُ عَلَيهِ حَيثُ قَالَ: سِيرُوا بِاسمِ اللهِ وَبِاللهِ وَفي سَبِيلِ اللهِ وَعلَى مِلَةِ رَسُولِ اللهِ

. (لا تغلّوا): وهنا توجد ثلاثة احتمالات لهذا المعنى:

أولًا: أي لا تخونوا أثناء تقسيم الغنائم، كما أشير إلى ذلك في بعض آيات القرآن الكريم، مثل سورة الأنفال الآية (41)، ويأخذ كل واحد حقّه فحسب ولا يخون في الغنائم.

ثانياً: على المقاتلين في الإسلام بغضِّ النظر عن الغنائم الحربية، ألّا يخونوا بعضهم بعضاً في سائر الأمور.

ص: 75

ثالثاً: على المقاتلين ألّا يخونوا أعداءهم أيضاً، لا زملاءهم فحسب متصرّفين

معهم بمروءة وكرامة، ويقاتلونهم ببطولة وشجاعة.

(وَلا تمثِّلُوا): أي بعد انتصاركم على أعدائكم، لا تمثّلوا بأجسادهم، بل وردت روايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن المثلة حتى بالكلب العقور (1).

ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (وَلا تَغدُرُوا) فإن قمتم بالصلح مع العدو أو وقّعتم معه هدنة احترموا ما تعاهدتم عليه، ولا تضعوه تحت أرجلكم، أو تستخفوا به، فالمسلم الحقيقي من يفي بعهوده ومواثيقه حتى مع أعدائه، ولذلك فقد كتب الإمام علي في عهده إلى مالك الأشتر (رحمه الله) كتاباً فيه ما يلي:

وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْامَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْ ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتَماعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ

(2).

ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:

وَلا تَقْتُلُوا شَيخاً فَانِياً وَلا صَبيّاً وَلا امرَأةً، وَلا تَقْطَعُوا شَجراً إلّا أنْ تَضطَرُوا إِلَيها

، إنّ الإنسان حينما يلاحظ تلك القوانين الراقية والتوجيهات العالية، يدرك عظمة الإسلام وسعة رحمته، إذ في مركز العنف في القتال، يشمل في رحمته الأشجار، فيأمر رسول الله صلى الله عليه وآله رسول الرحمة والإنسانية جنوده ألا يقطعوا شجرة أثناء القتال ويحترموا البيئة، حتى في تلك الظروف إلّا أن تكون تلك الشجرة والأشجار عقبة أمام تقدّم جنود الإسلام ومقاتلي القرآن، عندئذ لا مانع من قطعها من باب الضرورة وذلك بالمقدار الذي تقتضيه.

أمّا التعليمات الأخرى للرسول صلى الله عليه وآله فهي تشير إلى عظمة الرأفة والرحمة التي يدعو إليها في ميدان القتال حيث يقول:

وَأيَّما رَجُل مِنْ أَدنى المُسْلِمِينَ وَأَفضَلَهُم نَظَرَ إِلى أَحدِ المُشرِكِينَ فَهُو ج- ار حَتّى

يَسمَعَ كَلامَ اللهِ، فَإنْ تَبِعَكُم فَأخوكُم فِي الدِّينِ فإنْ أِبى فَأبِلِغُوهُ مَأمَنَهُ

(3).

فإذا قام أحد الجنود المسلمين سواء كان من القيادات العليا او من الدرجات الأدنى، بإعطاء الأمان لأحد الأعداء فإنّ ذلك العدو في أمان، ويجب أن ينقل إلى خلف خطوط الجبهة ويعرض عليه بكل صبر وأناة وسعة صدر وأسلوب رحيم معارف الإسلام وتعليماته وأحكامه، فإذا قبل الإسلام فهو يعتبر كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن لم يقبل الإسلام أو أراد مهلة للتفكير حول تعاليم الإسلام فيجب إرجاعه إلى بلده سالماً غانماً، ولا يحقّ لأحد أن يؤذيه أو يعذبه، طبعاً إنّ تنفيذ مثل هذه التعليمات ليست من الأمور السهلة إذ تتطلب سعة صدر وإيماناً قوياً راسخاً، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في ختام كلامه جنوده أن يستمدوا القدرة والمساعدة والعون من الله عزّ وجلّ لتنفيذ هذه التعليمات والمهامّ التي تمثّل قمة الرأفة والرحمة الإسلاميّة.

فهل يراعي عالم اليوم الذي يصمّ الآذان حول ضرورة مراعاة حقوق الإنسان ويطرح شعاراتها مثل الأمور المذكورة أعلاه في ميدان القتال؟ وقد شهدنا في الحرب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين أنّه لم تتم مراعاة تلك الأمور فحسب، بل إنّ هؤلاء المجرمين القساة قاموا بتدمير بيوت الفلسطينيين ومستشفياتهم على رؤوس من كانوا فيها، وأحرقوا مزارعهم، وقضوا على أشجارهم، ولم يرحموا صغيرهم ولا كبيرهم أو عجوزهم، أو شبّانهم ومع ذلك فإنّهم يدّعون الدفاع عن حقوق الإنسان ويتهموننا بالعنف وإشعال الحروب!.


1- بحار الأنوار، ج 42، ص 246- 257.
2- نهج البلاغة، الكتاب 53.
3- وسائل الشيعة، ج 11، ص 43.

ص: 76

4- الخمر والميسر

اشارة

إنّ الآية (219) من سورة البقرة تحتوي على السؤال والجواب القرآني الرابع حيث يقول تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما.

بيان الأحكام تدريجياً:

لقد كان المجتمع العربي في الجاهلية ملوثاً ومتورطاً بشكل شديد بالخمر والميسر، إذ كان الخمر عندهم وفي تقاليدهم كالماء الذي يشربونه ولهذا لم يكن من الممكن القضاء على مثل هذه العادة القبيحة دفعة واحدة من حياتهم، ولهذا لجأ القرآن الكريم إلى البرنامج التدريجي حيث حرّم الخمر في أربع مراحل، ويجب علينا أن نستفيد في الأمور التربوية من هذا الأسلوب القرآني.

فإذا أردنا أن يقلع شخص ما عن المخدرات أو السجائر، مع أنّه قد أدمن عليها لعشرات السنوات، فلا يجب أن ندعوه إلى التخلي عن عادته تلك دفعة واحدة، لأنّه سوف يجيبنا بأنّ هذا العمل مستحيل، كما أنّ له أضراراً، بل يجب أن نبدأ ذلك بالتقليل التدريجي لاستخدامه لتلك المادة، لنصل به بالتدريج إلى الدرجة صفر، وسوف نشير إلى تلك المراحل الأربعة لتحريم الخمر كما ورد في القرآن الكريم:

ص: 77

1. في الخطوة الأولى بعد أن ذكر الله نعمه يقول: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَعْقِلُونَ (1).

ففي هذه الآية الكريمة جعل الله عزّ وجلّ الرزق الحسن مقابل المسكرات، وهذه أوّل إشارة إلى أنّ الخمر مخالف للقيم، وأدرك الناس من هذه المقارنة أنّ الخمر ليست من الرزق الحسن، وأنّ استعماله لا يتناسب مع ذلك.

2. الآية (43) من سورة النساء تذكر الخطوة الثانية للتحريم التدريجي للخمر حيث يقول تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ

اعتبرت الآية الكريمة شرب الخمر مناقضاً للصلاة، ولم تسمح للمسلمين في صدر الإسلام أن يقوموا إلى الصلاة سكارى، وفي هذا إشارة ضمنية إلى أن شرب الخمر والسكر لا يتناسب مع العقل والفهم، وأمّا النقطة الثالثة التي يمكن أن تستفاد من هذه الآية أنّ الصلاة ليست ألفاظاً فقط، بل إنّ روح الصلاة تكمن في حضور القلب (2)، وبما أنّ السكران لا يتمتع بحضور القلب ولا يفهم ما يقول، لذا أمر الله عزّ وجلّ ألّا تقام الصلاة في حال السكر.

3. الآية (216) من سورة البقرة يعني هذه الآية التي نبحث فيها هي المرحلة الثالثة من مراحل التبيين التدريجي لحرمة شرب الخمر، إذ كما ورد في الآية الشريفة، فإنّ الخمر معصية كبرى وإن تدرّ عند بعض الأشخاص منافع وأرباح أثناء بيعه وشرائه، ولكن عندما تتم مقارنة تلك الأرباح والمكاسب بالأضرار الناجمة عن الخمر وشربه فإنّها أكبر بكثير، لذا تم التعامل في هذه الآية بشدّة أكثر مع شرب الخمر حيث عُبّر عنه بالإثم الكبير.

4. إنّ المرحلة الأخيرة لتبيين حرمة شرب الخمر تمثَّل بالتصريح بذلك في الآيتين (90- 91) حيث يقول تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ففي هذه الآية الشريفة استخدمت عشرة أنواع من التأكيد لتحريم شرب الخمر هي:

1. إنّ الآية الشريفة هي خطاب للمؤمنين ومعنى ذلك أنّ الإيمان يتناقض مع شرب الخمر ومن يشرب الخمر ليس مؤمناً، كما أنّ المؤمن لا يشرب الخمر.

2. جعل الخمر في مصافي الآثام الواضحة والمسلّمة مثل: القمار، والميسر، وعبادة الأصنام، وفي هذا تأكيد على حرمة شرب الخمر وقد وردت في الرواية

ش- ارِبُ الخَمرِ كَع- ابِدِ وَثَن

(3).

3. إنّ وصف الخمر بالرجس هو تأكيد آخر على حرمته.

4. إنّ وصف شرب الخمر بعمل الشيطان دليل على قبح هذا العمل.

5. عبارة (فَاجْتَنِبُوهُ) فيه تصريح واضح بالأمر بترك شرب الخمر، بل تصريح آخر على حرمة هذا العمل القبيح.

6. جملة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، حيث جعل الفلاح في ظل ترك شرب الخمر، فيه تأكيد سادس على حرمة شربه.

7. إنّ هدف الشيطان من شرب الخمر إيجاد العداوة والبغضاء بين المسلمين، وكل ما يستخدم وسيلة وسلاحاً للشيطان لإيجاد العداوة والبغضاء بين الناس حرام، وفي هذا تأكيد هام على حرمة شرب الخمر.

8. إنّ جملة (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) تأكيد آخر على مدَّعانا، إذ كل ما هو مادة لنسيان ذكر الله والصدّ عنه لا يمكن أن يكون محلّلًا ومباحاً.

9. إنّ الخمر بالإضافة إلى المفاسد المذكورة أعلاه يردع الإنسان عن الصلاة وهذا التأكيد السابع موجود في الآية أيضاً.

10. الجملة الأخيرة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هي التأكيد العاشر الموجود في الآية على حرمة الخمر وذلك بالقول: ألا تكفي تلك المفاسد المذكورة في الخمر لردعكم عن التلوث به.

إنّ هذه الآية الكريمة هي أمر واضح وصريح في بيان حرمة شرب الخمر، كما أنّها تشمل على الفلسفة المادية والمعنوية لتحريمه.

وبالتالي فإنّ الإسلام استخدم البرنامج التدريجي في بيان الأحكام وتبييناً لحرمة شرب الخمر ضمن أربع مراحل، وفي المرحلة الأخيرة منها ذكر التحريم بصورة صريحة وواضحة.


1- سورة النحل، الآية 67.
2- يوجد طرق عديدة لتحصيل حضور القلب، يمكن الإشارة إلى بعضها: معرفة الله، إدراك معاني الصلاة، إعطاء أهميّة للصلاة، وإبعاد عوامل الشرود الذهني، تجنب المعصية، الممارسة والتمرين، ولمزيد من الاطلاع انظر: التفسير الأمثل ج 8، في أوائل سورة المؤمنون.
3- بحار الأنوار، ج 47، ص 217 و ج 77، ص 47.

ص: 78

شرب الخمر في الروايات:

وردت روايات كثيرة في ذم شرب الخمر وأحكامه، حيث نشير إلى نموذج واحد منها، أوردها المرحوم الشيخ الصدوق في كتابه (الأمالي): يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:

لَعَن اللهُ عَشرَ طَوائفَ فِي الخَمرِ هِي: الخَمرَ وَعاصِرَها وَغارِسَها وَشارِبَها وَساقِيَها وَبائِعَها وَمُشتَريُها وآكلُ ثَمَنَها وَحامَلَها وَالمَحمُولِ إِليها

(1).

حيث قلّ أن يتم التشديد في أدنى شي ء من محرّم كما ورد في الخمر ..

سؤال: في جميع الحالات نعلم أنّ مقدمات الحرام محرمة ومقدمات الواجب واجبة، وبما أنّ الأمور المذكورة أعلاه مقدّمة للحرام فمن الطبيعي أن تكون محرمة، لذا ليس هذا بالأمر الجديد؟

جواب: نعم، ولكن ذكر مقدّمات هذا الأمر واحدة بعد أخرى والإعلان أنّ كل واحدة منها هي مورد لعنة الله تشير إلى أهميّة هذه المسألة.

فلسفة تحريم الخمر:

سؤال: لِمَ تحدثت الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن المعصومين الأطهار عليهم السلام بهذا القدر في مذمة الخمر؟ وما فلسفتها؟


1- ميزان الحكمة، الباب 1122، ح 5126.

ص: 79

جواب: توجد أسباب كثيرة لذلك نشير إلى نموذج منها:

إنّ الخمر يسلب عقل الإنسان الذي يعدّ جوهر وجوده، وقد يظن البعض أنّ شرب الخمر يسلب عقل الإنسان أثناء الإسكار فحسب، ولكن الإحصاءات والأرقام تشير إلى أنّ شاربي الخمر يتحولون بالتدريج نحو الجنون، وأنّ 85% من المجانين الموجودين في مستشفيات الأمراض العقلية، تحولوا إليها على أثر شربهم للخمر وأنّ 15% فقط منهم فقدوا عقولهم نتيجة عوامل وعلل أخرى.

في بريطانيا، يوجد 53 مجنوناً غير كحولي في مقابل 2249 مجنوناً كحولياً، بمعنى أن مقابل 40 مجنون يوجد 39 منهم على أثر إدمانهم لشرب الخمر فتعرضوا للجنون بسبب ذلك (1).

نعم، إنّ الخمر يقضي على أهمّ وأثمن جوهر للوجود الإنساني وهو العقل، ويجعله إنساناً في مصافي الحيوانات، ولابدّ من الإشارة أنّه بتعطيل العقل لاتنتهي مشكلات شارب الخمر عند حد، بل يمكن أن يكون ذلك سبباً لبداية تعاسته، ويمكن أن يقوم بارتكاب جرائم أخرى كالقتل ونهب أموال الناس والسرقة والتعرض لأعراض الآخرين، وترك العبادات والطاعات، وعشرات الأعمال المحرمة الأخرى التي يمكن أن نتوقعها من إنسان فاقد لعقله وشعوره.

فإذا قام الإنسان بحساب الجرائم والأمراض والسجون ومشافي الأمراض العقلية وباقي الجرائم الأخرى والغرامات الأخرى التي يتم دفعها هذه الأيّام بسبب الخمر، فإننا سوف نواجه بإحصاءات مهولة في هذا المجال، وقد قام الإسلام

بإصدار حكم تحريم شرب الخمر لمنع إصابة البشر وابتلائه بهذا المشروب الخطر وذلك بعد إطلاعه على جميع مفاسده وعواقبه.


1- التفسير الأمثل، ذيل الآية 90 من سورة المائدة

ص: 80

عدّة أسئلة:

سؤال: هل شرب مقدار قليل من الخمر، بحيث لا يؤدي إلى الإسكار، كأن يتم ذلك عبر القطّارة وتقطيره أو قطرتين أو قطرة واحدة على اللسان محرماً؟

جواب: وردت روايات كثيرة في هذا المجال منها:

م- ا أَسْكَرَ كَثِيرُهِ فَقَلِيلُهُ حَرامٌ

(1).

بناء على ذلك، فلا فرق في حرمة الخمر بين شرب قليله أو كثيره، والسبب في ذلك يعود إلى أنّه إذا أعطي الضوء الأخضر للأشخاص من ضعيفي الإيمان، فإنّه سوف يتم بسهولة انتهاك حرمة هذا القانون الإلهي ومن الممكن أن يأتي شخص ويقول: أريد أن أشرب عدّة قطرات، ويأتي آخر ويقول: أريد أن أشرب كأساً صغيراً، والآخر يقول: أريد أن أشرب كأساً كبيراً، ويدَّعي شخص آخر أنّه يريد أن يشرب زجاجة، وهكذا، فتخرج الأمور عن السيطرة، ولهذا لكي يتم ضبط هذا الأمر ومنعه فقد تم تحريم القليل والكثير منه.


1- البرهان في تفسير القرآن، ج 2، ص 352، ح 4.

ص: 81

سؤال: هل يجوز شرب المشروبات التي تسمى بماء الشعير والموجودة في السوق، والتي لا يوجد فيها كحول وأحياناً يوجد فيها القليل من الكحول؟

جواب: إذا لم تكن مسكرة ولا يوجد فيها كحول فليست بحرام.

سؤال: نحن نعلم أنّ الكحول الطبي والصناعي الذي لا يشرب لا يكون نجساً ومحرماً، فإذا تمّ تخفيفه بحيث أصبح قابلًا للشرب فما حكمه حينئذ؟

جواب: في هذه الحالة يكون نجساً ومحرماً، وللأسف يقوم البعض من الباحثين عن الربح والمستغلين بوضع مثل هذا الكحول في تصرف الشباب، ما أدى في النهاية إلى موت بعضهم أو عمى البعض الآخر منهم.

ص: 82

إعجاز حكمي وقانوني:

من دلائل عظمة قوانين الإسلام وأحكامه التي يمكن أن يعبر عنها بالإعجاز الحكمي والقانوني، يتمثل بأن هذا التشريع الإلهي قد منح البشر قبل 1400 عام قوانين وأحكاماً تتضح قيمتها هذه الأيّام، حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله حول المعيار في أفضلية الإنسان في بدء بعثته ما يلي:

لا فَضْلَ لِعَربِي عَلى عَجمِي وَلا عَجَمِي عَلَى عَربِي وَلا لأحمَر عَلى أَسود وَلا لأَسود عَلى أحمَر إلّا بِالتَّقوى

(1) وهو الأمر الذي يسعى عالم اليوم كمجتمع دولي للدعوة إليه عبر المساواة بين جميع القوميات ولم يستطع أن يعمل بها، إذ لم يتم لحدّ الآن حلّ مشكلة الزنوج في أمريكا، لأنّ البيض فيها غير مستعدين لقبول إعطاء كامل حقوق المواطنة للسود، في حين أنّ الإسلام حلّ هذه المشكلة قبل 1400 عام ونادى بأعلى صوته: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (2)، وهناك أحكام أخرى مماثلة، فمثلًا حول الخمر والقمار والميسر الذي نقوم بالبحث حول هذه الأحكام وتصرّح:

هذان الأمران من الكوارث الكبرى للمجتمع البشري

. لم يكن مثل هذه العبارة في زمن نزول القرآن وعصر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قابلة للفهم، لأنّ شرب الخمر كان متداولًا ودارجاً، حتى إنّ بعض الناس في الجاهلية كانوا يقدمون هذا الخمر كمهر لنسائهم، أمّا اليوم فقد ثبت أنّ الخمر كارثة على سلامة المجتمع الإنساني ومعنوياته.


1- ميزان الحكمة، ج 11، ص 4817، الباب 4163، ح 22398.
2- سورة الحجرات، الآية 13.

ص: 83

الخمر وسلامة الإنسان:

يعترف علماء وأطباء عصرنا الحالي أنّ الخمر سبب للعديد من الأمراض، يمكن

أن نشير إلى بعضها مثل الأمراض القلبية والعصبية والجلطات القلبية والسكتات الدماغية والسرطان.

وتؤثر المشروبات الكحولية على الإنسان بشكل سلبي، بحيث يمكن أن تهدد الأجيال القادمة فشرب الأم الحامل للخمر يمكن أن يصيب جنينها بالأمراض المذكورة سابقاً.

ص: 84

الخمر وسلامة المجتمع:

فيما يلي إحصاءات نشرتها بعض النشريات المعتبرة:

إنّ 60% من جرائم القتل العمد و 75% من النزاعات الدموية التي تنتهي بالضرب والجرح، و 30% من الجرائم غير الأخلاقية منها الزنا بالمحارم و 20% من السرقات هي نتيجة شرب المشروبات الكحولية (1).

وإنّ ما تتركه مثل هذه الجرائم من محاكمات ومحاكم وسجون وعقوبات، تحتاج إلى بحث تفصيلي آخر ليس هنا مجال البحث فيها بالإضافة إلى أنّ صدر الآية الشريفة (91) من سورة النساء قد أشارت إلى هذا الجزء من أضرار الخمر.

الخمر وفقدان القيم والمعنويات:

إنّ المشروبات الكحولية بالإضافة إلى أضرارها الجسيمة على جسم الإنسان والمجتمع، فإنها كارثة كبرى على القيم الإنسانية كذلك.

كما ذكرت الآية (91) من سورة النساء بأنّ إصابة الإنسان بأم الخبائث هذه تؤدي إلى البعد عن الله عزّ وجلّ وعن الصلاة الحقيقية وتصده عنها.

ونظراً لتلك الأضرار التي حذر منها الإسلام قبل 1400 سنة، وثبتت اليوم فإنّ الله عزّ وجلّ حرَّم الخمر.


1- التفسير الأمثل، ذيل الآية 90 من سورة المائدة.

ص: 85

تحريم القمار:

لقد وضع الله عزّ وجلّ الخمر والقمار والميسر والأصنام في الآية الشريفة (90) من سورة النساء جميعاً في مرتبة واحدة، ونحن نعتقد أنّه في الآيات القرآنية وروايات المعصومين الأطهار عليهم السلام لا توضع الأشياء غير المتجانسة وغير المترابطة إلى جانب بعضها بعضاً، لذلك فإنّ لهذه الأشياء والأمور الثلاثة قاسماً مشتركاً، وفقدان العقل، فهل يدفع الإنسان ماله أو يأكل شيئاً يوجب ضياع عقله، فهل هذا الأمر منطقي أو عقلائي؟ إنّ لعب القمار هو نوع من الجنون، إذ كثير من الناس الذين أضاعوا ثروة هائلة في ليلة واحدة بتوجههم إلى أماكن لعب القمار، وخرجوا من تلك الأماكن في الصباح صفر اليدين، قد أضاعوا كل ما جمعوه طوال حياتهم وخسروه وخرجوا في تلك الليلة فقراء، ألا يعدّ هذا العمل جنوناً؟!

إنّ عبادة الأصنام أيضاً نوع من الجنون، فهل يمكن أن نعتبر شخصاً ما أشرف المخلوقات الذي يجب أن يكون خليفة الله في أرضه إذا قام بصنع صنم بيده، ويسجد له أو يقدم ولده قرباناً لهذا الصنم وعند الفقر والحاجة يقوم بأكل الصنم الذي صنعه من التمر فهل يعدّ مثل هذا الإنسان عاقلًا؟! ولهذا فإنّ شاربي الخمر ولاعبي القمار وعابدي الأصنام كلهم يشتركون في قاسم مشترك واحد، وهو الجنون وعدم العقل، فكما أنّ شرب الخمر وعبادة الصنم محرّم فإنّ لعب القمار محرم أيضاً.

ص: 86

سبب تحريم القمار:

يدعو الإسلام إلى كسب الإنسان رزقه من عمل مفيد والعمل المفيد ثلاثة أقسام هي:

1) الأعمال الإنتاجية.

2) الأعمال التوزيعية.

3) الأعمال الخدماتية.

وتعتبر الزراعة والرعي وأمثالها من الصناعات من الأعمال الإنتاجية، وكذلك فإنّ التجار الذين يقومون بشراء البضائع المصنعة والمنتجة من مصنّعيها ومنتجيها، ثم يقومون بإرسال هذه البضائع إلى بائعي المفرَّق، حتى يقوم هؤلاء بإيصالها ووضعها بيد الزبائن والعملاء فإن هؤلاء التجار يعتبرون من مسؤولي القسم الثاني من الأعمال المفيدة، لأن جميع الناس لا يستطيعون أن يتوجهوا إلى مصانع الإنتاج والمزارع والمراعي لكي يهيئوا حاجاتهم منها، فلذا يقوم التجار والبائعون بالقيام بهذا العمل، أمّا الأطباء والممرضون والسائقون ومسؤولوا النظافة وأمثالهم فإنّهم يقومون بالأعمال الخدمية، وإنّ أعمال المجموعات الثلاث مفيدة ومؤثرة.

أمّا الذين يلعبون القمار ويربحون عن طريقها مبالغ عظيمة، ويقومون بتدمير حياة الطرف المقابل، هنا نتساءل أي عمل مفيد يقومون به؟ إذ إنّ مثل هذا الشخص لم يقم بشي ء مفيد البتة، بل ارتكب عملًا شيطانياً قبيحاً وأصبح تنطبق عليه الآية (29) من سورة النساء حيث يقول تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض) وبالتالي فإنّ القمار بالإضافة إلى أنه عمل غير مفيد فإنّه أكل للمال بالباطل فهو محرّم.

ص: 87

أضرار القمار:

إنّ الذين يلعبون القمار ويجعلونه حرفتهم، فإنّ مصيرهم في النهاية إمّا الجنون أو الإصابة بالأمراض العصبية، لأنّهم يعيشون دائماً حالة من التوتر ويرتفع ضغطهم وينزل نتيجة لذلك، ويعيشون تحت الضغط سواء ربحوا أو خسروا فيصابون بأنواع الأمراض، وفي النهاية يلجأ بعضهم إلى الانتحار، إذ إنّ شخصاً يدخل أماكن لعب القمار ليلًا مع ثروة عظيمة ويخرج منا صباحاً دون أن يكون في جيبه شي ء ليس له طريق إلّا الانتحار.

وبعض لاعبي القمار لا يخسرون كل أموالهم فحسب، بل يخسرون أعراضهم

أيضاً ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلاميقول:

كَانَتْ قُريشُ تُقامِرُ الرَّجلَ فِي أَهلِهِ وَم- الِهِ

(1).

وقد أصدر الإسلام حكم تحريم القمار في مثل هذه البيئة الفاسدة، ألا يعد مثل هذا الحكم معجزة؟

إنّ لاحظنا الإحصائيات الموجودة حول أضرار القمار المختلفة نرى: 90% من عمليات النشل، 50% من الجرائم المختلفة، و 10% من المفاسد الأخلاقية، 30% من حالات الطلاق، و 40% من النزاعات الدامية، و 5% من حالات الانتحار تتم من قبل لاعبي القمار!

والعجب كل العجب، أنّ عالم اليوم قد اعترف بالقمار رسمياً وصار للاعبي القمار في فرنسا مدينة خاصة بهم، حيث يذهب المقامرون من كل أطراف العالم إلى هناك، ولكن الإسلام حرم جميع أنواع القمار، حتى إنّه حرّم اللعب بالجوز بين الأطفال التي تتم فيها الربح والخسارة (2)، لأنّ الأولاد ومن يلعبون هذه اللعبة لا يقومون بعمل إنتاجي أو توزيعي أو خدماتي


1- بحار الأنوار، ج 79، ص 234، ح 11 و 12.
2- ميزان الحكمة، ج 8، ص 3485، الباب 3419، ح 17103.

ص: 88

مسابقات الخيل والرماية:

لقد حرّم الإسلام كل نوع من الرهان الذي يوجد فيه ربح وخسارة مالية، ولكنه أجاز حالتين من الربح والخسارة المالية، لما فيهما من أهداف معقولة ومنطقية ويمكن اعتبارها عملًا مفيداً، إحداها مسابقة الخيول إذ يمكن للفرسان والمتنافسون أن يشترطوا فيما بينهم بأن يربح واحد منهم مالًا من الآخرين إذا فاز، وإنّ فلسفة جواز الربح والخسارة المالية في مسابقات ركوب الخيل أنّ مثل هؤلاء الأفراد يمكن أن يتدربوا عن طريق هذه المسابقة للدخول إلى ميادين الحروب والقتال وهم

يستطيعون بذلك أن يدافعوا عن بلدهم إذا تعرضت لهجوم الأعداء وحملاتهم، أمّا المسابقة الأخرى فهي الرماية، حيث يجوز في مثل هذه المسابقة أن يشترط المتبارون فيما بينهم على ربح أو خسارة مال معين.

والرماية أيضاً من الفنون القتالية التي تلعب دوراً في إعداد الشباب من أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين.

سؤال مهم: الرهان بأسلحة اليوم:

سؤال: هل يمكن جعل أسلحة كل عصر وزمان بديلًا لمسابقات الرماية بالسهم والنشّاب؟

فمثلًا في زمننا صارت المنافسة بأسلحة اليوم والبنادق وسائر الأسلحة الأخرى التي أصبحت بديلًا للرمي بالسهام، هل يمكن القيام والمشاركة بهذه المنافسات عبر هذه الأسلحة الحديثة؟

جواب: نعم، إنّ هذا الموضوع صحيح، لأننا على يقين بعدم خصوصية القوس والنشّاب في ذلك، والمهم في ذلك الاستعداد القتالي للرماة، وهذا الاستعداد في كل عصر وزمان يجب أن يكون بسلاح عصره، وهذا الموضوع أيضاً يصدق حول مسابقة الخيل، لذا فإنّ المنافسة والرهان بوسائل النقل الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في ميادين القتال والجهاد لا إشكال فيه.

ص: 89

رهان المتفرجين ممنوع:

أحياناً يقوم المتفرجون على مسابقات ركوب الخيل بالرهان فيما بينهم، فمثلًا يراهن مئة شخص على الحصان رقم (1) ومئة آخرون على الحصان رقم (2)، ويضع كل واحد منهم ألف تومان مثلًا، ويتفقون على أنّه إذا احتل حصان ما الرتبة الأولى يجمعون المال ويقسمونه بين من راهنوا على ذلك الحصان، إنّ هذا الرهان حرام لأنّ المتفرجين لا يقومون بعمل إيجابي ولا ينجزونه.

ألعاب القمار غير المرئية:

لقد أفرز عصرنا الحالي أنواعاً من ألعاب القمار المبهمة التي تتمظهر في لبوسات تجارية وصفقات وعمولات من حقوق السمسرة وأمثال ذلك، وللأسف فقد خلّفت ضحايا كثيرة لحد الآن، وخدعت أفراداً كثيرين، واحتالت عليهم ووقعوا ضحية لها، وحيث إنّهم يضعون مثلًا بغرض شراء بضاعة معينة مبلغ 200000 تومان في حساب شركة ما، ومن ثم يقوم الشخص المشتري بالبحث عن زبون، فإذا قاموا بتعريف وتقديم زبونين إلى الشركة فإنّهم سوف يحصلون على عمولة من ذلك، وهذان الزبونان الجديدان كذلك يبحثان عن زبونين آخرين حتى يحصلوا على عمولة لأنفسهم، وهكذا يصبحون أربعة زبائن جدد، كل منهم يبحث عن زبونين آخرين وتستمر هذه الشبكة وتمتد، وبعد عدّة أشهر يلاحظ مسؤول المجموعة أنّ حسابه البنكي قد أصبح فيه مبلغ عظيم من المال بعنوان عمولة حق السمسرة، في حين لم يقم بأي عمل مفيد وإيجابي لا من الناحية الإنتاجية، ولا من الناحية التجارية، ولا من الناحية الزراعية ولا من ناحية الرعي، بل إنّ الشركة المذكورة قد احتالت على كثير من الناس ووضعت المبلغ الأساسي ممّا حصدته في جيبها، وأعطت مبالغ لرؤساء المجموعات، أمّا الأفراد في الرتبة الأخيرة من هذه الحلقة فهم يعدّون من خاسري الأموال الحقيقيين.

فإذا نظرنا في الرتبة الأخيرة من الشبكة المؤلفة من 100000 شخص، كل واحد منهم دفع 200000 تومان، نلاحظ أن مجموع ما دُفِعَ يصبح 20000 مليون تومان، في حين إنهم لم يحصلوا على ريال واحد من ذلك!

وقد أفتى مراجع التقليد بحرمة هذا العمل، وقد حظر مجلس الشورى الإسلامي هذا العمل، وقامت القوة القضائية بالتصدي له، وقامت قوى الأمن الداخلي باعتقال وسجن عدد من الناشطين في هذا المجال (1)، ولكن نظراً للربح الهائل لهذا القمار

العالمي للشركة الأصلية والمنابع الرئيسية لهذا العمل، فإنّه لحدِّ الآن تستمر هذه الفعاليات والنشاطات المشبوهة، على الرغم من أنّ المال المتحصل من القمار إذا دخل منزلًا من المنازل، فإنّه يسلب بركة ذلك المنزل ويسي ء إلى أهله ويكون سبباً لشقائه.


1- ولمزيد من الاطلاع انظر كتاب: (التسويق السبكي، أو الاحتيال المشبوه).

ص: 90

5- التعامل مع الأيتام

اشارة

إنّ الآية الشريفة (220) من سورة البقرة هو السؤال والجواب القرآني الخامس لبحثنا حيث يقول تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ.

في القرآن الكريم تعابير جامعة وكاملة، لذا فإنّه في التعامل مع الأيتام يستخدم كلمة الإصلاح الذي يشمل الإصلاح الجسمي والروحي والعاطفي والإقتصادي وأمثال ذلك، نعم إنّ هذه اللفظة تشير إلى ضرورة مساعدة الأيتام والاهتمام بكل جوانب حياتهم.

يقول تعالى: (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ حيث يشير الله عزّ وجلّ في هذا القسم من الآية إلى السماح بالاختلاط والتعامل والتفاعل مع حياة الأيتام، وأمر بالتعامل معهم كالإخوان، الذين يشتركون مع بعضهم بعضاً حتى آخر العمر في الكسب والعمل والحياة، وكل واحد منهم يتصرف في حدود حقه وحصته، ولا يطلب أكثر مما يستحق، وأحياناً تكون هذه الشراكة على قدر من الحلاوة والجمال بحيث إنّ أولادهم أيضاً يستمرون في هذا العمل.

ويقول تعالى: (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ في النهاية فإنّ الله عزّ وجلّ بعلمه اللامحدود يعرف نيات الناس وأغراضهم ومقاصدهم، ممن كان هدفه إصلاح عمل الأيتام ومن يستغل الأيتام في هذا المجال.

فإذااهتم الناس بهذه النقطة فإنهم لن يسمحوا بإفساد أو تخريب نواياهم الصادقة.

ويضيف تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ ويأمر الله تعالى، بأنه في الوقت عينه الذي تقومون فيه بالإشراف على الأيتام وإدارة حياتهم وأموالهم، يجب أن تقوموا بفصل حياتهم وأموالهم بشكل عام عن أموالكم وحياتكم ومعيشتكم، ولكن الله عزّ وجلّ لم يقم بذلك لإراحتكم، بل سمح لكم بالاختلاط بأموالهم ولكن ضمن إطار محسوب ومحدد.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فهو العزيز الذي لا تكسر قدرته، والحكيم الذي يأمر بحكمته.

ص: 91

الأيتام في القرآن الكريم:

اشارة

لقد أولى القرآن الكريم أهمية خاصة واستثنائية للأيتام حيث تحدث عنهم في هذا المجال بأكثر من عشرين آية نشير إلى نماذج منها:

1. الدقّة والاحتياط في التعامل مع أموال الأيتام:

لقد أوصى الله تعالى في الآية الشريفة (152) من سورة الأنعام بأموال اليتامى، لأنها عرضة للخطر أكثر من أي شي ء آخر، لأنهم لا يستطيعون الدفاع عنها فيقول تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وإنّ جملة (إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أنه إذا كان هناك طريقان لحفظ مال اليتيم فيجب أن تختاروا الطريق الأفضل والأصلح والأحسن إذ يجب التعامل مع أموال هؤلاء بكامل الدقة والحذر والاحتياط، بناء على هذه الآية الكريمة.

2. أكل النار:

في الآية (10) من سورة النساء تم توصيف حقيقة أكل مال اليتيم بهذا الشكل:

ص: 92

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.

لو كشف الغطاء لمن يأكل مال اليتيم ظلماً ورأى حقيقة ذلك المال الذي أكله، لتوضح أمامه أنه لا يأكل سوى النار فهل هناك إنسان عاقل مستعد ليضع في فمه شعلة من النار ويأكلها؟

3. إكرام الأيتام:

أشار الله عزّ وجلّ في الآيتين (17) و (18) من سورة الفجر إلى الجوانب العاطفية والمعنوية في التعامل مع الأيتام حيث يقول: (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ

إنّ اليتيم الذي فقد أباه، وحُرِم من عطفه، وذرفت أمه الدموع على فقدانه، وسُلِب نعمة محبته بحاجة أكثر إلى العطف والمحبّة والحنان، لذا أمر الله المسلمين بإكرام اليتيم وتعويض ما خسره من عواطف.

4. إيّاكم وقهر اليتيم:

إنّ الآيات من السادسة حتى التاسعة من سورة الضحى تشير إلى الجوانب العاطفية، وكيفية التعامل مع الأيتام، حيث يشير الله عزّ وجلّ في بداية هذه الآيات إلى مرحلة يُتم رسول الله صلى الله عليه وآله مذكِّرة بألطافه عليه، ثم يحذر المسلمين من تحقير الأيتام ويقول تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى* وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى* فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، ولهذا فلا يحق لأحد أن يقهر اليتامى.

ص: 93

5. سوء السلوك مع الأيتام مترادف مع الكفر بالله:

في الآيتين الأولى والثانية من سورة الماعون توجد تعابير مهولة حول سوء

السلوك مع الأيتام فيقول تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ بناءً على هذه الآيات فإنّ العنف وسوء السلوك مع الأيتام يعتبر في مصافِّ الكفر بالله عزّ وجلّ.

6. جعل قسم من الخمس وحصّة منه من نصيب الأيتام:

لقد تم النهي في الآيات السابقة من العنف والتعامل السيئ والحاد مع الأيتام، وأُمر المسلمون بإكرامهم واحترامهم، وتمت توصيتهم بالاحتياط الدقّة والمراعاة في التعامل مع أموالهم، وفي الآية الشريفة (41) من سورة الأنفال تمّ التعريف بمصدر مالي واقتصادي لهؤلاء الأيتام أيضاً، حتى يستطيع الأيتام الفاقدون للدخل والفقراء أن يديروا حياتهم بالاستفادة من سهمهم في الخمس، فيقول تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ء فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْ ء قَدِيرٌ.

نعم، إنّ قسماً من الخمس من نصيب الأيتام المحتاجين حيث يجوز صرفه في هذه الحالة مع إجازة مرجع التقليد، وبالنتيجة، فقد ذكر الله عزّ وجلّ الأيتام في أكثر من عشرين آية وبحث في أوضاعهم من زوايا مختلفة وحذّر المسلمين بذلك.

ص: 94

فلسفة إكرام اليتيم:

اشارة

لم يوصَ بالأيتام إلى هذا القدر وإلى هذا الحد من الإصرار في أيّ من الدول والأديان والمذاهب المختلفة في عالم اليوم، لذا نعتقد أن قوانين الإسلام من المعجزات.

وقد نزلت الآيات القرآنية في مرحلة كانت رسوبات الأفكار الجاهلية موجودة في أذهان العديد من الناس، إذ كان سفك الدماء والقتل والنهب وأكل أموال الأيتام

من الأمور العادية عندهم، بل إنّها كانت من الأمور القيّمة أحياناً؟ ولهذا فإن مثل هذه التعليمات العالية والقيّمة للإسلام في مثل هذه البيئة ليست إلّا معجزة حقيقية، وعلى أي حال فإنّ فلسفة جميع هذه الوصايا وتكرارها أمران:

أ) المسائل الإنسانية:

إذ يوجد في كل مجتمع أيتام يحتاجون إلى دعم الآخرين، وأنّ مثل هذا الحرمان وفقدان الأب ليس حكراً على البعض دون الآخر إذ يمكن أن يواجهه أطفال آخرون، فلا يعلم الإنسان ماذا يحل به في المستقبل، لربما تعرّض أطفاله لليتم غداً، ولهذا كما يحب الإنسان أن يتم تعامل الناس مع أيتامه بشكل جيد ولائق، وألا يمتنعوا ويقصروا عن إظهار عواطفهم ودعمهم المالي إليهم لذلك ينبغي عليه أن يتعامل بمثل ما يحب أن يتعامل مع أيتامه بالنسبة إلى أيتام الآخرين، لأنّ الإسلام مجموعة تعاليم من المحبة والعاطفة، بل إنّ أساس الإسلام مبني على المحبة، لذلك ينقل عن الإمام الصادق عليه السلامفي الرواية المشهورة أنّه قال:

هَل الدِّينُ إِلّا الحُبُ

(1)، وعلى هذا الأساس فإنّ الإسلام يوصي بوضع اليتيم وإجلاسه على ركبتك ومسح رأسه بيد العطف والرحمة، إذ إنّ ذلك يؤدي إلى إضافة حسنات في سجل أعمال من يقوم بذلك على قدر كل شعرة يتيم مرّر يده عليه (2)


1- ميزان الحكمة، ج 2، ص 215، الباب 658، ح 3067.
2- سفينة البحار، ج 8، ص 741 مفردة (يتم).

ص: 95

ب) المشكلات الاجتماعية:

إذا لم يتم الاهتمام بالأيتام فإنّ المجتمع سوف يتعرض للعديد من المشاكل، فإذا ترك الأولاد الأيتام بدون إشراف أو إدارة أو اهتمام في المجتمع، وحرموا من العاطفة والمحبّة والدعم المالي من قبل الناس، فإنّهم يتحولون إلى موجودات معقدة

وخطيرة، وبالتالي فإنّهم يتحولون إلى عوامل لتهريب المخدرات والقتل والسلب، وخلق الشرور والسرقة ومضايقة أعراض الناس والمشكلات الأخرى، لأنّهم لم يلقوا من الآخرين محبة أو عاطفة فيكونون بصدد الانتقام من المجتمع، وعند دراسة ملفات التهريب والسرقة والقتل نلاحظ أن من قام بهذه الأعمال حرّم الأيتام من محبّة المجتمع وعاطفته.

أيّها القراء الأعزاء! إنّ العاطفة الإنسانية والمحبة الإسلاميّة والأمن الاجتماعي تقتضي جميعاً منا أن نفكر بالأيتام وأن نسارع بشكل فردي وجماعي ومنظم إلى دعمهم ومساعدتهم.

أهل البيت عليهم السلام ومساعدة الأيتام:

من الفضائل المهمّة لأهل البيت عليهم السلام التي وردت في آيات من سورة الإنسان، دعمهم ومساعدتهم للأيتام؛ فثماني عشرة آية من أصل (31) آية من هذه السورة تتحدث حول هذه الفضيلة التي لا مثيل لها، وقسم من الآيات الثماني عشرة تتحدث حول أصل الحادثة، أمّا الآيات الأربعة عشرة الأخرى فتتحدث حول الجزاء ومكافأة العمل العظيم الذي قام به أهل البيت العظماء (عليهم السلام).

ص: 96

سبب النزول:

مرض الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام)، عندما كانا طفلين، فحضر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى منزل علي وفاطمة عليها السلام لعيادة ولديهما المريضين، ولما وقع نظره على حفيديه، خاطب علياً عليه السلاموقال له صلى الله عليه وآله: انذر نذراً حتى يشفي الله مريضيك، فقال علي عليه السلام: ربِّ! إذا شفي ولداي فإنّي سأصوم ثلاثة أيّام، وكذلك نذرت فاطمة عليها السلام.

وكذلك فعل الحسنان (عليهما السلام) على الرغم من صغر سنهما، تأسياً بأبويهما، ومن المحتمل أنّ فضة الخادمة أيضاً نذرت هذا النذر حيث كانت حاضرة هناك.

ص: 97

لم يطل الأمر حتى شفي ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وآله وقرر أهل البيت عليهم السلام أداء نذرهم، وفي اليوم الأوّل من صيامهم هيّأ علي عليه السلامللإفطار مقداراً من الشعير حيث طحنه، وقسّمه إلى ثلاثة أقسام على ثلاثة أيّام الصيام، في اليوم الأوّل قام بعجن قسم منه للإفطار، وهيّأ منه خبز شعير لعدد الأفراد الصائمين، وعندما حلّ وقت الإفطار، سُمع صوت من وراء الدار فخرج أهل البيت عليهم السلام إلى الخارج، ورأوا شخصاً خاطبهم بهذا الخطاب:

السّلامُ عَلَيكُم ي- ا أَهلَ البَيت

وأضاف: أنا شخص محتاج ومسكين، فساعدوني، فأخذ علي عليه السلامحصته من الخبز وأعطاه لذلك المسكين الفقير، وكذلك فعلت فاطمة عليها السلام وبقية أفراد الأسرة حيث أعطوا حصصهم لذلك المسكين، فقضوا ليلتهم في الإفطار على الماء فحسب (1)، وفي اليوم التالي من صيامهم أعدّوا الثلث الآخر من طحين الشعير واستعدوا للإفطار، وإذ بهم يسمعون شخص آخر يقول: السلام عليكم يا أهل البيت، فخرجوا إليه وسألوه: من أنت؟ وماذا تريد؟ وما حاجتك؟ فقال: أنا يتيم من أيتام هذه المدينة جائع فأشبعوني، فقام علي عليه السلامبإعطاء حصّته لذلك اليتيم، وكذلك فعل باقي أهل البيت (عليهم السلام)، في مظهر رائع من كمال الإخلاص وذلك لوجه الله؛ وباتوا ليلتهم كالليلة الأولى أفطروا على الماء فحسب، وفي اليوم الثالث صاموا لأداء نذرهم، وتكرر نفس قصة اليومين الأولين، ولكن هذه المرة مع أسير (2) طالب للمساعدة، فقام علي وأهل بيته عليهم السلام بإعطاء إفطارهم لذلك

الشخص، وقضوا ليلتهم الثالثة أفطروا على الماء فحسب، وبهذا الشكل وفوا بنذرهم، وفي اليوم التالي مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم، فرأى الحسنين (عليهما السلام) في حال من الشدّة والضعف يرتجفان، فحزن لذلك، ومن جهة أخرى أضاف حزناً على حزنه حينما لمحت عيناه عيني فاطمة عليها السلام قد غارتا من الجوع، فسأل علياً عليه السلام: يا علي! لِمَ أولادك في حال الضعف والشدّة؟ ولِمَ تغيّر لون ابنتي فاطمة عليها السلام؟ فحدّث علي عليه السلامرسول الله صلى الله عليه وآله بما جرى، في هذه الأثناء نزل جبريل عليه السلامحاملًا معه آيات سورة الإنسان، حيث يقول تعالى: (إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْس كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (3).

وقد نقلت كتب كثيرة شأن نزول هذه الآيات حيث نقل العلّامة الأميني (رحمه الله) في الغدير هذه القصة عن (34) كتاباً من كتب أهل السنّة (4).

وكذلك نقل المرحوم القاضي نور الله التستري هذه القصة عن (36) كتاباً من كتبهم (5) ولذلك فإن سبب نزول هذه الآيات تفوق حد التواتر.

ويصرّ بعض المتذرعين من أهل السنّة على أنّ هذه السورة مكية، وأنّ الحسنين

لم يكونا قد ولدا في مكة بعد، في حين أنّ علماء ومفسري الشيعة والسنّة ليال قبلوا شأن النزول المذكور سابقاً.

وقد ذكر البعض الآخر ما يلي:

كيف يمكن لإنسان أن يعيش مدّة ثلاثة ليال لم يذق إلّا الماء؟ في حين إنّ الجواب على هذا السؤال واضح، حيث وُجد في عصرنا كثيرون ممن قضوا (40) يوماً لم يذوقوا فيه إلّا الماء، واستطاعوا عن طريق هذا الصيام على الماء أن يحاربوا الكثير من الأمراض والمشاكل الجسمية والروحية (6)، والحقيقة أنّ مثل هذه الأمور لايمكن إنكارها، ولكن التعصب


1- في حين نرى هذه الآيّام، أنّ الموائد قد أصبحت ملونة ومنوّعة، حيث تنتهي للأسف إلى الكبر، بحيث إنّه أحياناً إذا لم تتوفر المائدة إلّا على نوعين من الطعام، نلاحظ أولئك الأشخاص يبدؤون عندها الشكوى والتكبر، وهذا خطير، ولكن وضع عامة المسلمين في ذلك الوقت لم يكن مناسباً حيث كان الناس يشبعون أنفسهم بالماء والخبز فقط.
2- في صدر الإسلام، كان الكفّار الذين يؤسرون أثناء حروبهم مع المسلمين، يصبحون عبيداً لهم، حتى يساعدوهم في أعمالهم الشخصية، وبعض المسلمين الذين لم يكونوا قادرين على تهيئة ما يحتاجونه، كانوا يحررونهم، وبما أنّ هؤلاء الأسرى لم يكونوا يملكون شيئاً أو يعرفون أحداً في مكة والمدينة فإنّهم كانوا يحتاجون إلى مساعدة الآخرين.
3- سورة الإنسان، الآيات 5 إلى 10.
4- الغدير، ج 3، ص 107 وذكر صاحب الغدير عشرة مصادر نقل منهم شأن نزول الآية المذكورة؛ نوادر الاصول، ص 64؛ العقد الفريد، ج 3، ص 42؛ الكشف والبيان، ص 307 و 427؛ مناقب الخوارزمي، ص 180؛ مطالب السؤول، ص 31؛ نور الأبصار، ص 12- 14؛ فتح القدير، ج 5، ص 338؛ روح البيان، ج 1، ص 268؛ الاصابة، ج 4، ص 387؛ الدر المنثور، ج 6، ص 299.
5- إحقاق الحق، ج 3، ص 157 وما بعد، المصادر التي نقل عنها ا حقاق الحق نذكر منه عشرة موارد: 1. الكشّاف، ج 4، ص 2؛ 169. أسباب النزول، ص 3؛ 331. معالم التنزيل، ج 7، ص 4؛ 159. التفسير الكبير، ج 3، ص 5؛ 243. تذكرة ابن الجوزي، ص 6؛ 322. كفاية الطالب، ص 7؛ 201. تفسير القرطبي، ج 19، ص 8؛ 129. ذخائر العقبى، ص 9؛ 102. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 10؛ 7. تفسير العلّامة النيسابوري، ج 29، 5112.
6- كتاب الصوم، اسلوب جديد في علاج الأمراض، تأليف اليكسي سوفرين، ترجمة محمد جعفر الإمامي.

ص: 98

والجهل وعدم المعرفة تدفع بعضاً من أهل السنّة أن يطرحوا إشكالات في كل مورد يرد فيه فضيلة لعلي عليه السلام، لأنّه ليس لهؤلاء مشاكل مع الحقائق التاريخية، بل لهم مشاكل مع الإمام علي عليه السلام.

ملاحظة: نحن نسعى في كل بحث عقائدي وتاريخي أن نخطو خطوة عملية في هذا الطريق، لذا في البداية فلنتوجه إلى أيتام أقاربنا وأهلنا، فإن لم نجد أحداً بين أقاربنا، فلنبحث عن الأيتام من بين أصدقائنا وجيراننا وزملائنا حتى نتكفلهم ونتحمل مسؤولية الإشراف عليهم، فإن لم نجد هؤلاء عندهم نتوجه إلى المياتم ونتكفل بعضاً من هؤلاء الأيتام كي يكون لنا ذلك زاداً للآخرة.

ص: 99

زيادة الجرائم:

من المشكلات التي يواجهها عالم اليوم تتمثل بزيادة نسبة الجرائم والجنايات، وقد أشارت الإحصاءات أنّ نسبة الجرائم تزداد عاماً بعد عام، سواء كانت جرائم ضد الإنسانية أو جرائم أخلاقية أو جرائم مالية وهي في طور من الارتفاع، وقد أضيف إليها العمليات الإرهابية للوهابيين السلفيين الذين حوّلوا العالم إلى مكان غير آمن.

جذور ارتفاع مستوى الجرائم:

يجب على جميع الناس لا سيما العلماء والمفكرين منهم أن يبحثوا في أسباب وعلل نمو نسبة الجرائم، ويبحثوا عن جذورها، ويفكروا في علاجها وإيقافها وطرق الحل لها.

ص: 100

في نظرنا فإنّ أحد أهم أسباب هذا الأمر يكمن في افول العواطف الإنسانية، لأنّ عالمنا المادي اليوم، للأسف الشديد، هو عالم مسخت فيه العواطف الإنسانية.

إنّ ما يهم العالم المادي هو كسب أكبر قدر من الدولارات والمناصب العالية، بأية وسيلة، إذ تعتبر أمريكا نفسها من وجهة نظرها دولة متقدمة، ولكن بناء على ما ورد في المصادر الإخبارية فإنّها قامت أخيراً ببيع ما قيمته (17) مليار دولار من السلاح للدول الأخرى، تلك الأسلحة التي لا تستهدف إلّا قتل الناس والقضاء على الحضارة البشرية، والدمار في نقاط العالم، فأصبحت نتيجة أعمال عدّة من العلماء الذين صنعوا هذه الأسلحة، والتجار الذين قاموا بتهيئة أسواق بيعها، والإدارة الأمريكية التي قامت بصفقات هذه الأسلحة، كله كان قتل ملايين من البشر، ولكن مقتل هؤلاء ليست له أهميّة عندهم، إذ إنّ المهم لديهم هو مبلغ (17) مليار دولار الذي دخل جيوبهم عن بيع هذه الأسلحة.

وبعد تجارة السلاح، تأتي تجارة المواد المخدرة من حيث كثرة دخلها وأرباحها التجارية، وللأسف الشديد فإنّ هناك بعض الدول المتورطة في مثل هذه التجارة التي لا نتيجة لها إلّا القضاء على الشباب المبتلين بها، ولكن مثل هذا الأمر ليست له أيّة أهميّة لعالم المادّة هذه الأيّام، إذ المهم عندهم هي الدولارات التي يحصلون عليها من بيع المواد المخدرة، نعم إنّ زيادة حجم الجرائم هي نتيجة موت العواطف البشرية، إذ في العالم المادي اليوم نلاحظ أنّه عندما يكبر الأولاد فإنّ آباءهم يتخلون عنهم ولا يحسون بأيّة مسؤولية تجاههم، وعندما يشيخ الآباء يقوم أولادهم بإرسالهم إلى دور العجزة، ولا يطمئنون عن أحوالهم عاماً بعد عام أبداً، وقد يقضون

أشهراً على فراش المرض أو في المستشفى دون أن يسأل عنهم أولادهم أو يزورونهم، ولكن بمجرّد موت الوالدين يظهر الأولاد، ولكن لا تخطئوا في التقدير، إنّهم لم يأتوا لإجراء مراسم الدفن والكفن وإقامة مجالس العزاء عليهم، بل ليبيعوا أعضاء أجساد آبائهم لكسب عدّة دولارات من ذلك!

إنّ هذه الثمار المرّة محصلة عالم اليوم التي ماتت فيها العواطف الإنسانية، والتي تدور على محور الدولار والقتل والنهب والمواد المخدرة والإرهاب وانعدام العاطفة والحنان!

ص: 101

منشأ العواطف:

إنّ منشأ العواطف الإنسانية هو الإيمان بالله والأصول الدينية، وعندما يقول الإسلام: (إنّما المُؤمُنونَ إخوةٌ (1) فإنّ هذه الجملة تحرك وتأجج العواطف الإنسانية، وعندما يخاطب القرآن الكريم الأولاد ويقول: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ (2) فإنّ مثل هذه الإرشادات والتوجيهات تؤدي إلى تفجر العواطف الإنسانية.

وتوصيات الإسلام حول الأيتام الأفراد الذين فقدوا معيلهم في المجتمع لا تؤدي إلى رفع الحاجات الجسمية والروحية لليتيم فحسب، بل إنّها تزيد أيضاً وتنمي العواطف الإنسانية النبيلة في هؤلاء الذين يقدمون المساعدة والدعم للأيتام، وقد أتى شخص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وشكا إليه قسوة قلبه وعدم ذرفه للدموع وقساوة القلب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:

إذا أَرَدتَ أَنْ يَلِينَ قَلبُكَ، فأَطْعِمِ المِسكِينَ وَامْسَحْ عَلى رَأسِ اليَتِيمِ

(3).


1- سورة الحجرات، الآية 10.
2- سورة الاسراء، الآية 33.
3- ميزان الحكمة، ج 8، ص 3467، الباب 3409، ح 17043، وورد شبيه هذه الرواية في بحار الأنوار، ج 75، ص 5.

ص: 102

نعم، إنّ إكرام اليتيم ومساعدة المحتاج يؤدي إلى ترقيق القلب وتفجر العواطف الإنسانية، وإنّ الدرس الذي نستفيده من هذه الرواية أنّ الرفق والرحمة باليتيم وتكفلهم لا يرفع الحاجات الروحية الجسمية لليتيم فحسب، بل يؤدي إلى تنمية العواطف البشرية في من يقوم بذلك أيضاً، وبتعبير آخر فإنّ التأثير متبادل، فإنني عندما أقوم بمساعدة محتاج فإنّ ذلك يؤدي إلى خلق نوع من العاطفة في قلبه ويصبح رهين محبتي له، وكذلك فإنّ عواطفي الإنسانية أيضاً بفضل هذا العمل أيضاً تنمو وتتفجر، وإنّ الطفل الذي نما وترعرع في ظل العاطفة والمحبّة، من المستحيل أن يتحول إلى شخص يضع القنابل في سيارة لتنفجر في أسواق المسلمين لتقتل المئات من الأبرياء وغيرهم، وإنّ من يقوم بمثل هذه الجرائم ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب والمرضى وغيرهم، إمّا أن تكون نطفته تعاني من إشكالات أو أنّه لم يذق طعم العاطفة أو يرى لونها أو يشم رائحتها، ولهذا فإنّ الإسلام يدعو إلى مجتمع مملوء بالعواطف الإنسانية! وعلى هذا الأساس إذا كانت الحكومة الإسلاميّة تتمتع بميزانية كبيرة وتستطيع من خلال ذلك أن ترفع حاجات كافة الأيتام، فإنّه على الرغم من ذلك فإنّ الناس يحتاجون إلى مساعدة الأيتام والمساكين لأنّهم إذا تركوا ذلك العمل فإن نبع عواطفهم الإنسانية سوف تجف بسبب ذلك

ص: 103

توصيات المعصومين عليهم السلام حول الأيتام:

إنّ الروايات الإسلاميّة مملوءة بالتوصيات المختلفة بالأيتام والأطفال الذين فقدوا معيلهم ونشير إلى نماذج من ذلك فيما يلي:

1. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:

مَنْ كَفَّلَ يَتِيماً وَكَفَّلَ نَفَقَتَهُ كُنْتُ أن- ا وَهُو فِي الجَنِّةِ كَهاتَينِ

(1).

من الممكن أن يدخل كثير من الناس الجنّة على أثر أعمال صالحة قاموا بها في

الدنيا، ولكن ليس كل أهل الجنّة يحظون بسعادة مجاورة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن متكفّلي وكافلي الأيتام يحظون بدرجة عالية من الاحترام والقرب في الجنّة، حيث إنّهم يكونون مجاورين لرسول الله صلى الله عليه وآله وأيّة درجة أعظم من هذا الأمر!

2. إنّ الإمام علي عليه السلاموهو في تلك الحالة التي تعرض فيها رأسه المبارك لضربة السيف المسموم على يد أشقى الأولين والآخرين وهو على فراش الشهادة، يوصي بوصايا يبدؤها بعبارة: (الله الله) وأوّل وصيّته عليه السلامكانت حول الأيتام ثم حول الجيران ثم القرآن ثم الصلاة ثم الكعبة ثم الجهاد وفي وصيّته للأيتام يقول:

اللّهَ اللّهَ فِي الْايْتَامِ، فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلَا يَضِيعُوا بِحَضرَتِكُمْ

(2).

3. في الرواية المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:

إِنَّ فِي الجَنّة داراً يُقالُ لَها دَارُ الفَرحِ لا يَدخُلُهُ إِلّا مَنْ فَرّحَ يَتامى المُؤمِنِينِ

(3).


1- سفينة البحار، ج 8، ص 740.
2- نهج البلاغة، الكتاب 47.
3- ميزان الحكمة، ج 11، الباب 4237، ح 2283.

ص: 104

الأيتام المعنويون:

نستفيد من الروايات أنّ الأيتام ينقسمون إلى قسمين:

1. الأيتام الظاهريون العاديون الرائجون الذين فقدوا آبائهم أو أمهاتهم أو كليهما، وقد بحثنا حولهم.

2. وهناك الأيتام المعنويون ممّن يعبّر عنهم أحياناً بأيتام آل محمد، وهؤلاء هم الشيعة الذين لا يصلون إلى إمامهم، لأنّ الإمام بمنزلة الأب، ومن لا يصل إلى أبيه يكون يتيماً، ومن قصرت يداه عن الوصول إلى أبيه فهو يتيم، وأنّ كفالة هؤلاء الأيتام تقع مسؤوليتها على عاتق علماء الدين، ممّن قاموا طوال عصر الغيبة الكبرى للإمام المهدي عليه السلامباحتضان أيتام آل محمد وتكفلهم؛ حيث دافعوا عنهم في مقابل شبهات الأعداء؛ ولم يسمحوا لهم أن ينحرفوا، ولا شك أنّ من يتحمل مسؤولية

تكفل هؤلاء الأيتام له مكانة أرفع بكثير من كافلي الأيتام من النوع الأوّل، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله حول الأيتام المعنويين ما يلي:

أَشَدُّ مِنْ يُتمِ اليَتِيمُ الّذي انْقَطَعَ عَنْ أَبِيهِ يُتْمُ يَتيم انْقَطَعَ عَنهُ إِم- امُهُ ألا فَمَنْ هَداهُ وَأَرشَدَهُ وَعَلَّمَهُ شَريعَتَنا كَانَ مَعنا فِي الرِّفِيقِ الأَعلَى

(1).

يجب أن نقول بحق بأنّه إذا لم يكن علماء الشيعة موجودين ولم يتحملوا مثل هذه الصعوبات أو يبذلوا مثل هذه الجهود، ولم يقوموا بإيصال علوم أهل البيت (عليهم السلام) ومعارفهم جيلًا بعد جيل إلى الشيعة، ولم يدافعوا أمام قصف الشبهات والأكاذيب والأضاليل والتهم التي قام بها أعداؤهم العالمون والجاهلون، فإننا لم نكن نعلم أين كان الشيعة يقفون هذه الأيّام متحيرين وتائهين؟

إنّ العدو لم يقصّر لحظة ولم يتوانَ لحظة عن القيام بدعاياته المسمومة والخطيرة، ولم يتردّد عن التوسل بالكذب والتهمة للوصول إلى أهدافه غير الشريفة، ولعل نموذج ذلك إحدى الفتاوى الأخيرة لعلماء الوهابية السلفية المتطرفة حيث قال: إنّ ذبيحة اليهود والنصارى محللة، أمّا ذبائح الشيعة فهي حرام، لأنّهم أثناء ذبح الحيوان يرددون يا حسين ويا حسن بدل ذكر الله! وللأسف فإنّ هذا المتظاهر بالعلم لم يطالع كتاباً واحداً من كتب الفقه الشيعية، لأنّ كافة كتب الفقه الشيعية من زمن المعصومين الأطهار عليهم السلام حتى الآن، يوجبون ذكر الله عزّ وجلّ أثناء الذبح، وما ذكره من أضاليل لم يوجد في أي كتاب من هذه الكتب فكيف لإنسان عاقل أن يقول مثل هذا الكلام؟ في حين أنّ الحكم الإلهي لذلك ورد في القرآن الكريم، والقرآن لا شيعة ولا سنّة فيه.

في الحقيقة فإنّ من فرط تعصّبهم وامتعاضهم لا ينتبهون لما يصدرون من فتاوى كاذبة، ولهذا عندما يتعرف الشاب الوهابي إلى معارف الشيعة المليئة بالمحبّة

والعطف والمنطق والاستدلال، ويلتحق هؤلاء الشباب زرافات ووحداناً إلى هذا المذهب، فإنّهم يمتعضون من ذلك، ويفقدون سيطرتهم على أنفسهم، فصاروا ينطقون بمثل هذه الكلمات النابية والتافهة التي لا أساس لها.


1- سفينة البحار، ج 8، ص 742.

ص: 105

6- ما هي الأطعمة المحلَّلة؟

اشارة

تشتمل الآية الشريفة رقم (4) من سورة المائدة على السؤال القرآني السادس وجوابه، ويتمحور حول الطيبات والأطعمة المحلَّلة لاسيما الصيد المحلّل، حيث يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ

عدّة نقاط:

1. إنّ قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ بمعنى أنّ جميع المحرَّمات هي من الخبائث والأشياء المضرّة، وإلّا فإنّ الله عزّ وجلّ لا يأمر بشي ء مخالف لأمر العقل.

2. إنّ الصيد بواسطة كلاب الصيد محلّل في الحالات التي المشترطة بما يلي:

أولًا: أن تكون قد دُرَّبت وربيت لهذا الغرض، أي أنّها تكون مطيعة لأوامر الإنسان، بحيث إذا أمرها الإنسان بالذهاب فإنّها تذهب وعندما يأمرها بالعودة فإنّها تعود، ولهذا فإنّ كل ما تصيده الكلاب غير المدرّبة والمعلمة ليست محللة.

ثانياً: ألّا تقوم تلك الكلاب بتقطيع ما تصيده، فإذا قامت بذلك وأكلت جزءً ممّا صادته، فإنّه ليس بجائز.

ثالثاً: عندما يتمّ إرسال الكلب خلف الصيد والفريسة، فيجب أن يقوم الصائد ومن أرسله بذكر اسم الله، لأنّ كل ذبيحة لم يذكر اسم الله عليه غير محللة، سواء كانت دجاجة أو غنماً أو بقراً أو جملًا أو ممّا يصاد من الطيور أو الحيوانات البرية إنّ هذا الأمر ليس مشروطاً في صيد السمك لذلك فإنّ سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (مدّ ظلّه) يذكر في المسألة (2250) من رسالته العملية (توضيح المسائل) ما يلي:

(لا يلزم أن يكون صائد السمك مسلماً، ويذكر اسم الله عند الصيد ...).

ص: 106

سبب النزول:

جاء صيادان في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله إليه وقالا له: نذهب إلى الصحارى مع كلاب الصيد، ونصيد بها الحيوانات البرية المحلّلة، وتصلنا بعضها حية حيث نقوم بذبحها، ولكن بعضها الآخر تقتل بواسطة تلك الكلاب، ففي هذه الحالة هل يعدّ لحم ذلك الصيد محلّلًا أم لا؟ فنزلت الآية الشريفة المذكورة أعلاه جواباً على هذا السؤال، حيث نذكرفي البداية قاعد عامة في ذلك، ثم تجيب على سؤال ذنيك الصيادين (1)، حيث مرّ ذلك بصورة مختصرة.


1- التفسير الأمثل، ج 3، ذيل الآية مورد البحث.

ص: 107

ماهي الطيبات؟

اشارة

إنّ لفظة (الطيب) و (الطيبات) استخدمت كثيراً في القرآن الكريم، حيث يدل البحث في جميع حالات استعمالاتها أنّها تستخدم في معان سبعة وهي:

1. الأشخاص الطيبون:

وردت هذه اللفظة في الآية (26) من سورة النور في وصف الإنسان الطاهر

والنزيه، سواء كان رجلًا أو امرأة، لذلك يقول تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

في هذه الآية الكريمة، تم وصف النساء الطاهرات النزيهات المبرآت بالطيبات، وكذلك تم وصف الرجال الطاهرون النزيهون والمبرؤون بالطيبين، وما يستفاد من هذه الآية الشريفة أنّه عندما يتقدم شاب لطلب يد فتاة ما يجب عدم حصر التفكير بماله، ومنصب أبيه وجمال الفتاة فحسب، لأنّه إذا لم يكن الجمال مرافقاً للعفة والطهارة والتقوى فإنّها ستتحول إلى كارثة حياتية، وتودي بحياة الإنسان إلى الظلمة والتعاسة، أمّا إذا كان ذلك الجمال مرافقاً للعفة والطهارة فإنّه جيد، وكذلك هو إذا كان مرافقاً للمال والثروة.

2. الكلام الحسن والطيب:

اشارة

لقد استعملت لفظة الطيب في الآية الشريفة (24) من سورة الحج في وصف الكلام، حيث يقول تعالى: وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلى صِراطِ الْحَمِيدِ، من الأمور التي تكون سبباً في سعادة ونشاط أهل الجنّة هي الأقوال التي ترتفع بالروح وتوجب السكينة والاطمئنان والسعادة، وهذا الأمر ليس مختصاً بأهل الجنّة ويوم القيامة، بل إنّ المؤمنين في الدنيا أيضاً يسعدون ويبحثون عن القول الطيب والطاهر.

وقد فسِّر الصراط الحميد في الروايات الإسلاميّة بالولاية (1)، فالله عزّ وجلّ يهدي المؤمنين إلى ولاية علي عليه السلاموأنّ كلام علي عليه السلاموأولاده الطاهرين هو نور هداية لهم.

وتعتبر كلمات الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلامفي نهج البلاغة وتوجيهات الإمام السجاد عليه السلامفي الصحيفة السجادية، الأحاديث الكثيرة الواردة عن الأئمّة

المعصومين عليهم السلام التي وردت في الكتب الروائية، لاسيما روايات الإمامين الصادق والباقر (عليهما السلام)، نماذج راقية من الطيبات من القول والكلام الطاهر.

أيّها القارئ المحترم! أيّها الشاب العزيز! إنّ نهج البلاغة منبع استثنائي عظيم وثروة استثنائية كبرى، ونحن حالياً نعمل على كتاب (شرح نهج البلاغة)، حيث تم طبع ونشر عشرة أجزاء منه، حيث يفتح لنا في كل يوم باب عبر هذا الطريق من العلوم الواسعة والمتسعة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.


1- البرهان في تفسير القرآن، ج 3، ص 866، ح 7259.

ص: 108

وإنّ كثيراً من أهل السنّة، عندما يقفون موقف الحكم حول نهج البلاغة، فإنّهم يأتون بأحاديث عجيبة ومحيِّرة، وفي الخطبة (221) من نهج البلاغة، عندما يتحدّث علي عليه السلامعن الحالات التي يمرّ بها الإنسان في أواخر حياته وأثناء احتضاره، ويقوم ذلك الإمام عليه السلامبوصف تلك الحالات بذلك الأسلوب الجميل والرائع، يكتب ابن أبي الحديد في ذلك (1)، بأنّه عادة ما يتخصص بعض الناس في فرع أو فرعين من العلوم، ولكن نهج البلاغة رسم تخصص الإمام أمير المؤمنين عليه السلامفي مختلف المجالات، بحيث إنّه لا يمكن تصوّر أن يكون هناك إنسان مختص ومتضلع فيها أكثر من علي عليه السلام.

فعندما نسمع علياً عليه السلاميتكلم في خطبة الأشباح (2) عن التوحيد وصفات الله عزّوجلّ بأسلوب لا يستطيع أي فيلسوف في العالم أن يتكلم أو يصل إلى مثل تلك المعارف، أو يعبّر عنها بذلك الكلام، وعندما نطالع خطبته لهمّام (3)، عندما يذكر فيها الإمام علي عليه السلاممائة وعشر من صفات المتقين بذلك الأسلوب الرفيع والعالي من الفصاحة والبلاغة، لا نستطيع أن نتصور أستاذاً في الأخلاق يمتلك تلك القدرة على توصيف المتقين، وعندما نقرأ كتابه وعهده إلى مالك الأشتر وندرس ذلك الكتاب (4)،

ونلاحظ أنّه منذ ما يزيد على (1400) عام، لم يستطع غبار ذلك التاريخ والقدم أن يتراكم على هذا الكلام، بل إنّه تحول أخيراً إلى وثيقة رسمية عزيزة في منظمة الأمم المتحدة، وتمّت ترجمته إلى مختلف اللغات، وثم يوضع تحت تصرف ممثلي كافّة دول العالم، فإننا لا نستطيع أن نتصور سياسياً يستطيع أن يتمكن من ترسيم أو وضع مثل هذا النظام لإدراة البلاد.

وما كتبه عليه السلاممن كتاب وهو على فراش الشهادة لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) وباقي أبنائه (5) حيث أوصى حتى بقاتله، فإنّه لا يمكن أن نجد مثل ذلك أو يكون التاريخ قد أعطانا مثل ذلك في أي زمان ومكان.

ونظراً إلى هذه النقاط التي ذكرناها، فإننا ندعو ونوصي بتقليل تلك المسافة التي تفصلنا عن نهج البلاغة وأن نطبق ذلك الكتاب العظيم في حياتنا، حتى نبعث النور والبركة في حياتنا وعيشنا وتتغير نفوسنا.


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 608.
2- نهج البلاغة، الخطبة 91.
3- المصدر السابق، الخطبة 193.
4- المصدر السابق، الكتاب 53.
5- نهج البلاغة، الكتاب 47.

ص: 109

نموذجان من قضاء علي عليه السلام:

1. جاء شاب إلى علي عليه السلاموقال له: يا أمير المؤمنين! إنّ أبي رجل موسر ذهب إلى سفر مع عدّة أشخاص، والآن عاد هؤلاء المرافقون له، ولكن أبي لم يرجع، وعندما سألتهم ما حال أبي قالوا لي: إنّه مات، فسألتهم عمّا حلّ بأمواله، فقالوا: ليس لنا علم عنها، يا أمير المؤمنين إنّي أشك في هؤلاء الأشخاص، أرجو منك أن تأخذ حقّي منهم.

فلو كان أمير المؤمنين عليه السلامقاضياً بسيطاً وعادياً لقال لذلك الشاب: أقم على ادعائك بيّنة، وبما أنّه لم يكن يملك تلك البيّنة لطلب من المتهمين أن يقسموا للردّ على ذلك الاتهام والادّعاء، ولكان ذلك الملف قد أغلق بذلك القسم، ولذهب حق ذلك الشاب، ولكن ذلك القاضي هو علي عليه السلام بما يمتلكه من عقل و فهم و ذهن غيرعادي.

ص: 110

فالتفت علي عليه السلامإلى ذلك الشاب وقال له: احضر إلى المسجد غداً، حتى أقضي حول مشكلتك التي لم يشهد التاريخ مثلها إلّا في زمن نبي الله داود، ومن ثم أبلغ عليه السلامالمتهمين كذلك بالحضور إلى المسجد، ودعا الناس كذلك أن يشهدوا حكمه وقضاءه، وعندما حلّ الموعد المقرر أجلس عليه السلامكل واحد من المتهمين عند أسطوانة من أسطوانات المسجد وعصّب أعينهم، ثم أشار إلى الناس أن يكبّروا عندما يكبِّر، ثم أمر الشخص الأول المعصب العينين أن يأتي نحوه، فسأله: هل مات والد ذلك الشاب موتاً طبيعياً أو قتل؟ فأجابه المتهم بأنّه مات ميتة طبيعية، وعندما سأله أمير المؤمنين عليه السلامعمّا حلّ بأمواله؟ فقال: إنّي لا أعلم عن أمواله شيئاً، فسأله علي عليه السلامعن يوم مماته، فأجاب ذلك الشخص، مثلًا، يوم السبت، فخاطب علي عليه السلامكاتبه وقال له: سجّل كل تلك التصريحات، ثم سأله فأين دفن؟ فأجاب في ذلك المكان الفلاني، فسأله: فمن صلّى عليه؟ فقال له: الشخص الفلاني، فسأله: بأي مرض توفي ذلك الشخص، فأجابه بذلك المرض الفلاني، ثم سأله الإمام أمير المؤمنين عليه السلامعن حيثيات وتفاصيل أخرى، وكان كاتبه يسجّل كل ذلك، فإن كان المتهم صادقاً في قوله لكان جواب من كان معه مشابهاً لرده، وإن كان كاذباً في ردِّه لاختلفت أقوال من كان معه أو واحد منهم على الأقل في تلك التفاصيل، وعندما انتهى التحقيق مع ذلك الشخص كبّر علي عليه السلاموكبّر الحاضرون في المسجد، وعندما سمع المتهمون ذلك التكبير اضطرب المتهمون الآخرون، وقالوا لأنفسهم: لا ريب أنّ صديقنا قد اعترف بما عليه وتخلى عنّا، فأحضر علي عليه السلامالمتهم الثاني وخاطبه بالقول: (ما كان صديقك يريد أن يقوله، قد قال، ولهذا قل أنت الحقيقة، وبالتالي فإنّ الامام علي عليه السلاممن دون أن يكذب في قوله، خاطب ذلك المتهم بجملة تحمل أكثر من معنىً، لكي يأخذ ذلك المتهم راحته في الكلام، وهذا ما دفعه إلى الإقرار والاعتراف بالحقيقة، فقال: يا أمير المؤمنين! إنّي لم أكن الوحيد الذي قتل ذلك الشخص، بل إنّ تلك الجريمة قد تمّت من قبلنا جميعاً، ومع اعتراف المتهم الثاني كبَّر أمير المؤمنين عليه السلام

وكبّر المؤمنون الحاضرون معه، فخاطب علي عليه السلامذلك الشاب ابن الرجل المقتول وقال له: ما أنت فاعل معهم، فردّ ذلك الشاب: يا أمير المؤمنين، لقد عفوت عنهم لحرمتك وكرامتك، فعند ذلك دعا علي عليه السلامأولئك الأشخاص واحداً بعد واحد، فاعترفوا جميعاً بقتل ذلك الرجل والتصرف في أمواله، عندها قام أمير المؤمنين عليه السلامبإرجاع الشخص الأوّل الذي لم يقرّ ويعترف فاعترف بما ارتكب، عندها ألزمهم علي عليه السلامبدفع المال وقصاص الدم (1).

على القضاة المحترمين أن يأخذوا الدروس من هذه الأحكام العجيبة والنماذج الأخرى التي تمتلئ بها الكتب المعتبرة (2)، حتى يتمكنوا بمطالعة تلك الأحكام أن يعيدوا حقوق المظلومين الضائعة بشكل أفضل وأسرع.

كما أنّ هذه الحادثة تشير أن مايقال من أنّه لا ينبغي التحقق أو التفحّص لصالح المدّعين هو أمر لا أساس له، بل يجب حتى الإمكان التحقق والبحث لكشف ملابسات القضية والوصول إلى الحقيقة.

2. طبقاً لرواية واردة في المصادر المعتبرة، أنّه راجعت امرأتان في زمن الخليفة الثاني إليه، وكل منهما تدّعي أنّها أم طفل ما، وأنّ الطفلة الأخرى هي للمرأة الأخرى، وكانت القصة أنّه حملت امرأتان بدون أن تحضر القابلة لتوليدهما، فولدت إحداهما طفلًا صبياً، والأخرى ولدت طفلة، واختلفا فيما بينهما حول الصبي وادّعت كل منهما أنّها أُمّه، وأنّ البنت للأخرى (3)، ولما سمع عمر بتلك الشكوى، جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حوله وسألهم: هل سمعتم في هذا المجال شيئاً من رسول الله؟ فقالوا: لا!، فقال لهم: فماذا نفعل؟ واقترح بعضهم أن يتمّ حلّ هذه المشكلة عن طريق

القرعة، فلم يقبل الخليفة ذلك.

ثم قال: إنّ مفتاح حلّ هذه المشكلة بيد علي عليه السلاموأظن أنّه يستطيع أن يوجد طريقاً صحيحاً أمامنا لحل تلك المشكلة، فصدّقه الحاضرون وقالوا: ابعث شخصاً إلى عليٍّ ليأتي إلينا ويحلّ مشكلتنا، عندها قال عمر الذي كان يهتم بالأمور الظاهرية: بما أننا نحتاج إليه لحلّ مسألتنا وإشكالنا، يجب أن نذهب نحن إليه لا أن يأتي إلينا، فذهب الخليفة وأصحابه إلى منزل علي عليه السلام، ولكنه لم يكن في منزله، ولما سألوا عنه قيل لهم: إنّه في البستان مشغول بسقاية النخل.

أيّها القارئ العزيز! أيّها الشباب الأعزاء! لقد كان سيدنا ومولانا علي عليه السلاميقوم بالزراعة والري والرعي، لذا لا ينبغي بنا أن نخجل من العمل، لأنّ العمل ليس عيباً أو عاراً، بل إنّ العار هو أن نكون عالة على المجتمع والوالدين، على أي حال فتوجهوا إلى بستان النخل، وعندما وصلوا هناك سمعوا صوت علي عليه السلاميتلو القرآن الكريم، مشغولًا بقراءة الآية (36) من سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً حيث كان يتلو تلك الآية ودموعه تنزل من عينيه.

فأتوا إليه عليه السلاموقصّوا عليه القصّة كاملة، فانحنى علي عليه السلاموأخذ قبضة من التراب وقال: إنّ حلّ هذه المسألة أسهل عليَّ من أخذ قبضة من التراب عن الأرض، وأضاف قائلًا: ائتوا إلي بميزان ذي كفتين متساويتين، ثم أمر


1- (دانشنامه أميرالمؤمنين عليه السلام) كتاب معارف أميرالمؤمنين عليه السلام، ج 11، ص 59.
2- وسائل الشيعة، ج 18، ص 206.
3- عندما كان الله عزّ وجلّ يرزق الإمام السجاد ولداً، لم يكن يسأل عن الولد هل هو صبي أو بنت؟ بل إنّه كان يسأل عن سلامته. (وسائل الشيعة، ج 5، ص 143)، وفي هذا درس عظيم لنا جميعاً بأنّه لا اختلاف بين الطفلة والطفل، إذ كل منهما نعمة وهدية الله عزّ وجلّ.

ص: 111

امرأتين أن يملآ كفتي الميزان من لبنهما، ثم وزن كفتي الميزان المملوءتين باللبن، ثم قال: من كانت لبنها أثقل فهي أم الصبي، ومن كان لبنها أخفّ فهي أم الطفلة، لأنّ اللبن الذي يرتضعه الطفل أثقل لأنّ الطفل الصبي له طبع أخشن من الطفلة، وأمّا لبن الطفلة فهي أخفّ لأنّ طبعها ألطف وحساسة أكثر، فتمّ حلّ هذه المشكلة بهذه الطريقة، وأخذت كل امرأة طفلها الحقيقي.

وهنا قال عمر قولته المعروفة:

اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن

(1).


1- وقد وردت هذه القصّة بصورة مختصرة في وسائل الشيعة، ج 15، ص 210، ح 6.

ص: 112

3. الأرض الطيبة:

وصف القرآن الكريم الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة في بعض من آياته بالطيبات ووصف الأرض المالحة التي لا تصلح للزراعة بالخبائث، حيث يقول تعالى في الآية (58) من سورة الأعراف: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ

الأرضية الطيبة شرط أيضاً:

لا ريب أنّ المطر الذي يهطل على الأرض الخصبة هو نفسه الذي ينزل على الأرض المالحة، ولكن الأُولى تتمتع بأرضية وقابلية نمو النباتات والثمار الطيبة والمفيدة، أمّا الأخرى فلا تمتلك تلك الأرضية.

لا ريب أنّ أبا جهل وأبا لهب وأمثالهما، سمعوا آيات القرآن الكريم والأحاديث والمواعظ والنصائح من لسان رسول الله صلى الله عليه وآله كثيراً جدّاً ولكنهم لم يتأثروا أبداً بها!

ولا شك في لطافة طبع كلام رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن الإشكال والمانع يكمن في عدم وجود الأرضية الصالحة لقبول أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما، لهذا الكلام الطيب، في المقابل فهناك أشخاص قد اهتدوا إلى الإسلام بعد ألف سنة من ظهوره، بسبب سماع حديث من رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنّهم كانوا يمتلكون الأرضية الطيبة الصالحة لذلك، لذا فإنّ فيوضات ونعم الله عزّ وجلّ وعنايات الإمام الحجة عليه السلاملا محدودة، ولكن لا تتلقاها إلّا القلوب الطاهرة، التي تمتلك تلك الأرضية والأرواح الصافية التي تستفيد منها.

ص: 113

4. الصعيد الطيب والتربة الطيبة:

وُصف التربة الطاهرة بالطيبات في القرآن الكريم، فعندما يجب على الإنسان غسل أو وضوء ما، لا يستطيع ذلك لسبب من الأسباب فيجب عليه أن يتيمم، إذ يحل التيمم بديلًا من الغسل والوضوء في هذه الحالة، ولكن بأي شي ء يتيمم؟ يقول

تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (1).

إنّ البعض قد يقوم اثناء التيمم في إثارة الغبار والتراب الموجود على السجاد أو الفرش الذي يمشون عليه ليتيمموا به، وهذا مخالف للصحة، إذ يستطيع الإنسان أن يعد قطعة حجر مثلًا أو بلاط بمساحة (30* 30) وأثناء الحاجة يتيمم عليها، وفي الماضي حينما كانوا يزفون الفتاة إلى منزل زوجها كانوا يضعون في جهازها صحناً فيه تراب طاهر للتيمم، حتى إذا لم تستطع ليلة الزفاف أن تغتسل أن تتيمم بدلًا من ذلك، ولا يتمّ قضاء صلاتها بسبب ذلك.


1- سورة المائدة، الآية 6.

ص: 114

5. الحياة الطاهرة والطيبة:

تمّ توصيف الحياة في القرآن الكريم في الآية (97) من سورة النحل بالطيبة أيضاً حيث يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

يمكن لحياة الإنسان أن تكون طيبة طاهرة كما يمكن أن تكون خبيثة، فالحياة الطيبة الطاهرة هي حياة ممزوجة بالأمن والهدوء والسلام والمحبة، أمّا الحياة الخبيثة فهي مترافقة بالنزاع والنكد والخوف من الآخر وفقدان الأمن والخداع، وقد وضحت الآية الكريمة سبل الوصول إلى الحياة الطيبة عبر العمل الصالح والإيمان والاعتقاد الراسخ الباطني، وللعمل الصالح مفهوم واسع جدّاً، بحيث يبدأ من الإيمان بالله وذكر لا إله إلّا الله، ويشمل أيضاً على إماطة الأذى والحجر من الطريق (1)، وفي ما بينهما: الجهاد في سبيل الله وتهذيب النفس، وبناء واعمار المساجد والمدارس ومساعدة الأيتام والمحتاجين والمشاركة في المسيرات والانتخابات المهمة والمصيرية، وإعداد جهاز الفتيات اللاتي يردن الزواج ولا يمتلكن القدرة على

شرائها، وكذلك المساعدة لتحرير المسجونين الأبرياء، وآلاف الأعمال الحسنة والمقبولة، تكون مشمولة بالعمل الصالح، ولهذا نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا للقيام بهذه الأعمال الصالحة.


1- عوالي اللئالي، ج 1، ص 431؛ صحيح مسلم، كتاب الإيمان، الباب 12، ح 58؛ مسند أحمد، ج 2، ص 379.

ص: 115

6. الأطعمة الطاهرة الطيبة:

وصفت الأطعمة الطاهرة بالطيبات أيضاً في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى في الآية (57) من سورة البقرة مايلي: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ نعم، لقد ابتلي بنو إسرائيل على أثر عصيانهم لله عزّ وجلّ بالتيه (الظاهر في صحراء سيناء الذي يقع بين مصر وفلسطين لمدة 40 سنة على ما ارتكبوه من معاص، بحيث كانوا يفتقدون الظل واللطف والرحمة الإلهيّة، حتى دعا موسى عليه السلامربّه ليرفع عنهم هذا العذاب وببركة دعائه أرسل الله عزّ وجلّ الغيوم في النهار لتظلّلهم، كما بعث إليهم أطعمة خاصّة من الجنّة، وأوصاهم أن يأكلوا من تلك الأطعمة الطاهرة التي أرسلها الله عزّ وجلّ إليهم، وأن يشكروا الله عزّ وجلّ على ذلك ولا يكفروا بنعمته، ولكنّهم مع ذلك اتخذوا طريقهم للمعصية والخطأ، وظلموا أنفسهم بذلك.

ص: 116

فلسفة تحريم تناول اللحوم المحرمة:

إذا كان أكل لحوم الحيوانات الوحشية والمفترسة محرّمة لمنع أن يطبع الإنسان المسلم بطبع تلك الحيوانات من تناوله لحومها، وأنّ تحريم أكل لحم الخنزير ويعود إلى أنّ هذا الحيوان معروف بعدم تقيده من الناحية الجنسية، ولذلك فإنّ الإسلام لا يسمح بأن تنتقل هذه الصفةالقبيحة عن طريق الهرمونات الموجوده في لحمه إلى الإنسان المسلم، ويتحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع منفلت، وإن حرم الإسلام لحم الحيوان الجلّال، فالسبب في ذلك أنّ لحم هذا الحيوان خبيث وملوث، ولا يريد

الإسلام أن يتناول المسلم مثل هذا اللحم لئلّا يتلوث ويخبث جسده، لذا أمر بتطهير تلك الحيوانات وإبرائها عبر إبعادها عن النجاسات لمدّة معينة تتخلص خلالها ممّا أصابها من خبث وتلوث ونجاسة، ثم تصبح قابلة للأكل، وعندما حرّم الإسلام شرب الخمر كما ذكرنا في أربع آيات لأنّ طعمها خبيث ورائحتها كذلك ولها نتائج وآثار خطيرة وخبيثة، كما أنّها تحمل

ص: 117

أضراراً كثيرة، حتى أنّها وصفت في الروايات ب- (أم الخبائث) (1) و (مفتاح كل شر) (2) و (رأس كل إثم) (3) وأمثال ذلك من التعابير (4)، حيث حرّم جميع الأنبياء ذلك (5).

ونظراً لما سبق، هل تعدّ المواد المخدرة بل مطلق الدخانيات من الطيبات أو الخبائث؟ لا شك أنّ تلك المواد التي تؤدي إلى تحطيم الحياة الأسرية ليست من الطيبات، بل هي من الخبائث، فعندما يراجعنا أحد الأشخاص المدخنين لسؤال مسألة شرعية فإنّ رائحة سيئة تفوح من فمه أثناء السؤال، ممّا لا نستطيع تحمله! فكيف تستطيع أسرته وعائلته تحمّل ذلك؟ ألا يعتبر ذلك من الخبائث والله أعلم؟ وقد أشار الأطباء أخيراً أنّ 75% من المدخنين يؤول أمرهم إلى الإصابة بسرطان الرئة و 40% منهم يصابون بسرطان البروستات، فهل يعد استخدام مثل هذه الأمور التي تؤدي إلى مثل هذه الأمراض الخطيرة جزءاً من الطيبات أم الخبائث؟ (6)


1- وسائل الشيعة، ج 17، ص 253، ح 11.
2- المصدر السابق، ص 254، ح 8.
3- المصدر السابق، ص 253، ح 7.
4- المصدر السابق، ص 251، ح 3.
5- المصدر السابق، ص 241، حخ 12.
6- انظر لكتاب: (السيجار الظاهرة المميتة لعصرنا).

ص: 118

الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد:

اختلف أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وجمع من أهل السنّة في أنّ الأحكام الإلهيّة

تابعة للمصالح والمفاسد؟ إذ يقول المعتقدون بذلك الأمر مايلي:

إنّ ما حرّمه الله الحكيم، لابدّ أن تكون فيه مفسدة، وقد حرّمه الله عزّ وجلّ لتلك المفسدة، وكل ما أوجبه الله عزّ وجلّ لابدّ أن تكون فيه مصلحة ولذلك أوجبه.

أمّا منكروا هذا الأمر فيعتقدون أنّ الواجبات والمحرمات لم تكن فيها أيّة مصلحة أو مفسدة قبل وجوبها وتحريمها، بل إنّ المحرمات بعد تحريم الله عزّ وجلّ أصبحت لها مفسدة، والواجبات كذلك أصبحت لها مصلحة بعد وجوبها من قبل الله عزّ وجلّ، وهذا الكلام عجيب والقائلون به أيضاً قليلون.

ونحن، أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، بتمسكنا بأهل البيت عليهم السلام في ظلّ عملنا بحديث الثقلين نعتقد أنّ حكمة الله عزّ وجلّ توجب أنّ المحرمات قبل تحريمها كانت فيها مفسدة، وأنّ الواجبات قبل وجوبها كانت فيها مصلحة، وفي القرآن الكريم حوالي (70) آية تتكلم حول العقل، ويدعو الله عزّ وجلّ المسلمين بأشكال مختلفة إلى التفكير والتعقل، ولهذا فإنّ الإسلام دين العقل.

إذ إنّ العاقل يعتبر السرقة أمراً قبيحاً والتصرف في أموال الناس بدون رضاهم كذلك، ولذلك فإنّ الله عزّ وجلّ بالتناسب مع حكم العقل يحرّم شرب الخمر، فكل المحرَّمات والواجبات فيها مفسدة ومصلحة، ولكننا ندرك مفاسد بعض تلك المحرمات ومصالح بعض تلك الواجبات، ولا نعلم البعض الآخر منها، ولهذا ذكرت في رواياتنا فلسفة الأحكام حيث ألّفت في هذا المجال كتب عديدة (1)


1- لمزيد من الاطلاع راجع كتابنا (الربا والصيرفة في الإسلام)، ص 29 وما بعد.

ص: 119

7- يوم القيامة

اشارة

إنّ السؤال القرآني السابع هو الآية الشريفة (187) من سورة الأعراف، حيث تتحدث عن يوم القيامة والساعة، يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَاللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.

تكرار هذا السؤال والهدف منه:

تكرّر السؤال عن الساعة في القرآن الكريم ثلاث مرات، منها اثنتان في هذه الآية، والأخرى في الآية الشريفة (42) من سورة النازعات، ويستفاد من هذا التكرار أنّ الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله كثيراً حول هذا الأمر، ولكن ما كان هدف سائليه؟ هل كانوا حقّاً يسعون وراء فهم موضوع ما، ويهدفون أن يضيفوا إلى معلوماتهم شيئاً جديداً، أو أنّ هدفهم كان أغراضاً فاسدة أخرى؟ وعندما نبحث في شأن نزول هذه الآية يتضح لنا أنّ هدفهم كان الخيار الثاني.

ص: 120

سبب النزول:

اشارة

توجه جمع من مشركي العرب (العاص بن وائل، والنضر بن الحارث، وعقبة بن

أبي معيط) إلى نجران، وهي مدينة تقع بالقرب من مكة للّقاء بعلمائها والتوصل إلى أساليب جديدة في محاربة الرسول صلى الله عليه وآله وسألوهم: ماذا ينبغي أن نفعل حتى نقضي على مصداقية محمّد بين أصحابه؟ وأضافوا: لذا نطلب منكم أن تهيئوا أسئلة صعبة نسأله عنها فلا يستطيع الإجابة عليها بين أصحابه! فأجابوهم بذلك قائلين: إنّ إحدى أعقد هذه المسائل، أن تسألوه عن زمان قيام الساعة، وإنّكم تستطيعون أن تحققوا بذلك هدفكم، لأنّه إن ادّعى أنّه يعلم وقت الساعة فهو كاذب لأنّ الله لم يطلع هذا الأمر على أي ملك مقرب أونبي مرسل، فرجع هؤلاء المشركون و طرحوا هذا السؤال على رسول الله صلى الله عليه وآله بهدف إحراجه، فنزلت هذه الآية الشريفة، وردّت عليهم بأنّ وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلّا الله، وأنّ رسوله صلى الله عليه وآله غير مطلع عليه (1).

وإنّ هناك موضوعين ينبغي الاهتمام بهما والتأمل حولهما:


1- البرهان في تفسير القرآن، ج 2، ص 622، ح 4119.

ص: 121

1. يوم القيامة ثقيل ومزلزل:

إنّ أمر القيامة ليس بسيطاً بل ثقيل ومزلزل، حيث ينهار كل شي ء على أعتابه، حتى الجبال الراسيات الشامخات التي تزال عن أماكنها مع مالها من عظمة، بل إنّها تقذف في السماء وتتحول إلى غبار وتراب، وتشتعل النيران وتدمّر الزلازل كل شي ء وتقلبها رأساً على عقب، فيموت الجميع خوفاً وفرقاً، وتنتهي الدنيا بهذه الطريقة.

ص: 122

2. يوم القيامة يأتي بغتة:

إنّ بدء يوم القيامة لا يكون بالتدريج، بل يكون بشكل مفاجئ وبدون خبر مسبق، إذ يمكن وصف يوم القيامة بزلزال يحدث فجأة ويقضي على آلاف الأشخاص، فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى زلزال بم فإنّه لم يستغرق إلّا خُمسَ

الدقيقة أي (12) ثانية، ولكنه خلال هذه المدّة القصيرة قضى على آلاف الأشخاص، ودمّر آلاف المباني القديمة، كان البعض منها يعود إلى أكثر من 100 عام، بحيث لا يتصور الإنسان بعد الزلزال أنّه كانت توجد حياة في تلك المنطقة التي خربها الزلزال قبل ذلك!

رسالة الآية: كونوا على استعداد:

إنّ رسالة الآية الشريفة لجميع مخاطبيها تتمثل ب-:

أولًا: لا تسألوا عن أشياء لا تنفعكم.

ثانياً: كونوا على استعداد دائم للموت، لأنّ القيامة إذا دقت ساعتها فإنّها لا تمهل الإنسان أيّة فرصة أبداً، فما دامت الفرصة مؤاتية لكم فاعملوا واهتمّوا بما تعملون به، وتوبوا عن ذنوبكم، وعّوضوا ما اقترفتم من ذنوب بالأعمال الصالحة، وأعيدوا الحقوق إلى أصحابها، وأبرئوا ذممكم من هؤلاء الذين تعدّيتم على حقوقهم، وأدّوا حقوقكم الشرعية، واقضوا صلواتكم وصيامكم، ولا تقصّروا في أداء كفاراتكم ونذوركم وعهودكم التي في ذمتكم، لأنّ وقت الزلزال غير معيّن، وعندما يبدأ فليست هناك أيّة فرصة عندها، لذا قبل أن تبدأ الزلازل ابنوا بيوتكم مقاومة وفق الأصول الفنية، حتى تكونوا في أمن وأمان حين وقوع الزلزال.

ص: 123

فلسفة عدم معرفة قيام الساعة ووقتها:

سؤال: قد يتساءل البعض عن سبب جعل بعض الأمور مجهولة وغير معلومة، ولِمَ جعل قيام الساعة ووقتها غير معلوم؟ وما فلسفة ذلك؟

جواب: إذا كان قيام الساعة ووقتها معلوماً ومحدداً لأصيب الناس بالغفلة، ولكنه إذا كان مجهولًا وغير معلوم عندما يكون الناس دائماً في انتظار ذلك اليوم لحظة بلحظة ولا يبتلون بالغفلة، فكما أنّ نهاية عمر الإنسان غير معلوم ولا يستطيع أي

شخص أن يعرف لحظة موته وما يمنعه عن الغفلة عن نفسه.

أيّها القارئ المحترم! إنّ الموت يأتي بغتة، ويأخذ بتلابيب روح الإنسان فجأة، وإنّ السكتات القلبية والجلطات الدماغية التي كثرت في هذه الأيّام لهي من أكثر الشواهد على ذلك، إذ إنّ الجلطة لا تختص بشخص يعاني من مرض قلبي أو دماغي، بل إنّه قد يصيب الشخص السليم الذي ليس له سابقة في المرض القلبي والدماغي، فلذا يجب على الإنسان أن يكون مستعداً للموت كل لحظة وأن يهيئ نفسه لذلك السفر.

على الرغم من أنّ الإنسان لا يعلم ساعة ولحظة موته، فإنّه يرتكب المعاصي والسيئات والجرائم، فإن كان مطلعاً بلحظة موته ويعلم مثلًا أنّه سوف يموت بعد عشرين سنة فهل يرتكب مثل هذه الجرائم والمعاصي والسيئات؟

ولكي لا نصاب بالغفلة، علينا أن نعمل على حفظ سجل أعمالنا طاهراً ونظيفاً وأن نتوب بأسرع ما يمكن من ذنوبنا ومعاصينا وأن نخفف عن كاهلنا أثقال تلك الذنوب.

الآية (42) من سورة النازعات:

كما ذكر سابقاً فإنّ السؤال عن زمن قيام الساعة ورد في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، اثنان منها في الآية (187) من سورة الأعراف مرّ البحث فيها، أمّا الموضع الآخر فهي الآية (42) من سورة النازعات حيث يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها* فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها* إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها).

ص: 124

السؤال نوعان:

يمكن تقسيم أسئلة الناس إلى نوعين:

1. الأسئلة التي تطرح بهدف التعلم والفهم والمعرفة.

2. الأسئلة التي تطرح بغرض العناد، أحياناً يكون السؤال حول أصل العالم بعد الموت، وكيف يمكن الإنسان أن يبعث من جديدبعدموته وبعد دفنه وتحوله التراب؟

مثل تلك القصّة التي أخذ فيها الأعرابي عظاماً نخرة بيده، وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وذرّ تلك العظام النخرة أمامه على الأرض، ثم سأله: من يقدر على أن يبدل هذه العظام الرميمة النخرة مرّة أخرى إلى إنسان؟ فأجابه الله عزّ وجلّ على لسان رسوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ (1).

إنّ مثل هذا السؤال يطرح بهدف التعلم والمعرفة، ولذلك لما سمع ذلك الأعرابي ذلك الجواب المحكم والمنطقي من الله عزّ وجلّ قَبِله ورجع إلى بلده.

ولكن أحياناً يكون الغرض من السؤال هو العناد، كالسؤال عن زمن قيام الساعة، لأنّ هذا السؤال ليس فقط بلا فائدة للإنسان، بل إذا أجيب عليه أضرّه، ولهذا يجب ترك طرح مثل هذه الأسئلة، ويجب السؤال عن الأعمال والأفعال التي تؤدي إلى نجاة الإنسان وإنقاذه يوم القيامة، وأن نسأل عن أعمال تبعدنا عن النار، وتقرِّبنا وتدلّنا إلى الجنّة (2).

لذا يجب أن نسأل عن أمور توجب أن نستلم سجلّ أعمالنا بأيماننا، وتنضر بها وجوهنا، نعم يجب أن نسأل أسئلة تعود بالفائده علينا ونتجنب العناد، واللجاج، مثل من يسأل عن زمن ظهور الإمام المهدي عليه السلامالذي لا يعلم عن ذلك إلّا الله عزّ وجلّ، فبدل ذلك يجب أن تكونوا مستعدين ومنتظرين لذلك اليوم وتقوموا بالأعمال التي تجعلكم من أنصاره وأعوانه وجنوده، وعندها لا يهمّكم أيّان ظهور الإمام عليه السلاممادمت مستعداً.


1- سورة يس، الآيتان 78- 79.
2- مثل هذا النوع من الأسئلة، يمكن أن نراها في الروايات، وذلك على سبيل المثال، حين أتى شخص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو متوجّه إلى إحدى الحروب، فوصل إليه وأخذ زمام دابته وقال له: علّمني عملًا يارسول الله أدخل به الجنّة، فأجابه صلى الله عليه وآله: عامِل النّاس كَما تُحِبُّ أن يُعامِلُوكَ وَلا تُعامِلهُم مثلما تَكره أن يُعامِلُوك . (ميزان الحكمة، ج 2، الباب 550، ح 2250).

ص: 125

الأمور التي لا يعلمها إلّا الله:

نرى في الآية الشريفة (34) من سورة لقمان أنّ الله عزّ وجلّ أخفى بعلمه ومعرفته خمسة أشياء كما تقول الآية الكريمة:

إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

فقد حصرت تلك الآية الأشياء التي لا يعلمها إلّا الله في خمسة هي:

1. زمن قيام الساعة.

2. وقت نزول المطر.

3. نوع الجنين الذي في بطن الأم.

4. ما يخبئ المستقبل للإنسان.

5. ساعة موته.

سؤال: كيف يمكن أن ندّعي انحصار تلك الأمور بالله عزّ وجلّ فحسب، في حين نرى أنّ مؤسسة الأحوال الجوية تطلعنا عن وقت نزول الأمطار في مناطق مختلفة، كما أنّ المتخصصين في التصوير بالأمواج الصوتية يستطيعون باستخدام أجهزة متطورة أن يحددوا جنس الجنين طفلًا أو طفلة، ذكراً أو أنثى، بل إنّ بعض أولياء الله عزّ وجلّ مطّلعون على ساعة حلول أجلهم، كما أنّ الامام الحسين عليه السلامطبقاً للروايات التي وصلت إليه عن رسول الله صلى الله عليه وآله، كان يعلم أنّه سيستشهد في أرض كربلاء، فكيف يمكن الجمع بين هذه الأمور؟

الجواب: نقول في جواب هذا السؤال مايلي:

إنّ العلم على قسمين:

1. إجمالي.

2. تفصيلي.

إذ من الممكن للإنسان أن يعلم إجمالًا بعضاً من هذه الأمور الخمسة، وتكون له

معلومات إجمالية حولها، ولكن المعرفة التفصيلية بتلك الأمور ليست إلّا بيد الله عزّ وجلّ، فالناس يتوقعون مثلًا أن تهطل الأمطار في نقطة معينة من الأرض، وألّا تهطل في نقطة أخرى، ولكن هل يعلمون مقدار المطر الذي سوف ينزل وعدد قطرات المطر التي سوف تهطل فيها وباقي التفصيلات الأخرى المتعلقة بهذه الأمور؟

من الممكن للناس، أحياناً، أن يتوقعوا جنس الجنين الفلاني ذكراً أو أنثى، ولكن هل يستطيعون أن يحددوا أنّ هذا الجنين الذي توقعوه سوف يكون جميلًا أو قبيحاً؟ أو أن يكون حسوداً أم لا؟ أو سوف يكون رياضياً أم لا؟ أو سوف يكون ذكياً حاذقاً أو لا؟ وهل سوف ينجح في حياته أو لا؟

لا شك أنّ مثل هذه التفصيلات والتي يطلق عليها العلم التفصيلي لا يعلمها إلّا الله، نعم من الممكن للإنسان أن يقول بأنني سوف أذهب غداً إلى شغلي ومحل عملي كالعادة، ولكن هل يستطيع أن يعلم كم عدد الأشخاص الذين سوف يؤمون مكان عمله؟ وكم شخصاً منهم سوف يشتري؟ وكم منهم سوف يترك محله راضياً؟ وكم سيكون دخله غداً؟ وما الذي سيجري معه من حوادث يوم غد؟ لا شك أنّ الله عزّ وجلّ فقط يعلم تفصيلات هذه الأمور.

ص: 126

وحول ساعة موت الإنسان وتاريخ موته، فإن كان بعض الأفراد مطلعين على ساعة أجلهم، فإنّهم ليسوا على اطلاع بتفصيلات ذلك، فالإمام الحسين عليه السلامكان يعلم أنّه سوف يستشهد في أرض كربلاء، ولكن هل كان يعلم بدقّة مكان شهادته التي سيسقط فيها على الأرض؟ وهل كان يعلم بدقّة الزمن الدقيق الذي سوف ينال فيها الشهادة؟

والشاهد على ما ذكر حديث عن أمير المؤمنين عليه السلامحيث يقول بعد ذكره الآية الشريفة في آخر سورة لقمان:

فَيَعْلَمُ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْارْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً. فَهَذَا

عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ

(1).

وبالنتيجة: إنّ ما ذكر من اختصاص علم الله عزّ وجلّ بهذه الأمور الخمسة التي وردت في الآية (34) من سورة لقمان، فإنّه علم تفصيلي من قبله أمّا علم الآخرين بها فهو إجمالي، لذا فإنّه لا يوجد أحد إلّا الله يعلم علماً تفصيلياً عن هذه الأمور الخمسة.


1- نهج البلاغة، الخطبة 28.

ص: 127

ضرورة البحث عن علم الغيب:

ا أنّ الآية التي نبحث فيها تتحدث عن كشف الستار عن أحد الأمور الغيبية والخفية، وهو زمان قيام الساعة، ونظراً لأنّه تمّ الفراغ من الكلام في الآية التي تلي هذه الآية التي نبحث فيها أي الآية (188) من سورة الأعراف: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ وحيث تمّ فيه الحديث بصراحة عن علم الغيب، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وآله عن نفسه العلم بذلك، ونظراً إلى ما يبثه الوهابيون السلفيون من دعايات مسمومة حول إنكار علم الأئمّة المعصومين عليهم السلام بالغيب فمن اللازم أن نبحث بشكل مختصر عن هذه الأمور.

ص: 128

ما هو علم الغيب؟

إنّ الغيب بمعنى الأمور الخافية، وعلم الغيب هو معرفة تلك الأمور الخفية والخافية، وقد يتعلق علم الغيب أحياناً بأمور خافية ماضية، مثل استخدام علم الغيب في معرفة أحوال وتاريخ وحياة وسيرة وحوادث مرت في التاريخ الفلاني بالملك الفلاني الذي لم يسجل التاريخ عنه شيئاً، وأحياناً يتعلق علم الغيب بأمور خافية في العصر الحاضر مثل الاستفادة من علم الغيب لمعرفة ما يقوم به شخص ما

بعيداً عن الأعين في منزله؟ أو ماذا يخزّن من بضائع ومواد في مخزنه؟ وأحياناً يتعلق علم الغيب بالمستقبل، كأن يتساءل الإنسان ما الذي سوف تجري من أمور بعد عشر سنوات؟ وهل سوف تندلع حرب عالمية ثالثة؟ وهل سوف تحدث واقعة مهمّة في المستقبل؟

النتيجة: علم الغيب هو معرفة الأمور الخافية سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.

الأنبياء والأولياء وعلم الغيب:

سؤال: هل تمتّع الأنبياء والأئمّة وأولياء الله بشي ء من علم الغيب، أو أنّ علم الغيب ومعرفته محصور بالله عزّ وجلّ؟

جواب: إنّ الآيات القرآنية في هذا المجال كثيرة، ومتنوعة، فطائفة منها حصرت ذلك الأمر بالله عزّ وجلّ، ولكن طائفة أخرى يستفاد منها أنّه كان للأنبياء والأولياء حظ من ذلك، وسوف نبدأ بطرح آيات من كل طائفة، ومن ثم سوف نحكم على كل حالة منها:

ص: 129

الطائفة الأولى: علم الغيب محصور بالله عزّ وجلّ:

1. نفى رسول الله صلى الله عليه وآله- كما في الآية 31 من سورة هود- عن نفسه معرفة علم الغيب فيقول تعالى معبراً عن ذلك وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ

2. في الآية الشريفة 179 من سورة آل عمران، نفى تعالى علم الغيب عن الجميع بدون استثناء، فيقول تعالى: وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ

النتيجة من الآيتين أعلاه والآيات المشابهة لها، أنّها تدل على أنّ علم الغيب محصور بالله عزّ وجلّ، ولا حظ لأي شخص فيه.

الطائفة الثانية: لغير الله عزّ وجلّ حظ من علم الغيب:

بناءً على طائفة من آيات القرآن الكريم كان لبعض الأنبياء السابقين علم بالغيب، فإن كان للأنبياء السابقين علم بالغيب فلرسول الله صلى الله عليه وآله والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) من بعده حظ من ذلك أيضاً، ولنشر إلى بعض من تلك الآيات:

1. طبق الآية الشريفة (49) من سورة آل عمران، ادّعى نبي الله عيسى عليه السلامعلم الغيب، يقول تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وبناءً على هذه الآية الكريمة، فقد كان لنبي الله عيسى عليه السلاممعجزات منها: أنّه كان يعلم أموراً خافية على الناس في عصره، إذ كان يستطيع أن يخبر عن الأطعمة التي يأكلونها ومايدّخرونه في بيوتهم، ولهذا فإنّ أحد الأنبياء والرسل من أولي العزم أي عيسى عليه السلامكان له حظ من علم الغيب.

2. في قصة سيدنا موسى عليه السلاموالخضر عليه السلامالتي ورد تفصيلها في سورة الكهف ذكر مايلي:

إنّهما ركبا يوماً السفينة فخرقها الخضر عليه السلام، ولما رآه موسى عليه السلاميفعل ذلك اعترض عليه، فأجابه الخضر: ألم نتفق على ألّا تعترض على أي أمر أقوم به حتى أشرح لك الحكمة من عملي، فاعتذر منه موسى واستمر في السفر، وأثناء السفر قام الخضر عليه السلامبقتل غلام، عندها لم يتحمل موسى عليه السلامذلك فاعترض عليه فذكّره الخضر عليه السلامبما اتفقا عليه، فاعتذر منه موسى عليه السلام، واستمرا في سفرهما حتى دخلا مدينة، حيث وُوجِها من قبل أهلها بعدم الاهتمام أو الضيافة وعدم المساعدة، ولكن الخضر عليه السلامأثناء خروجه من المدينة، طلب من موسى عليه السلامأن يهيئ مواد بناء ليساعده في إصلاح جدار يريد أن ينقضّ، فاعترض عليه موسى عليه السلامفقال له الخضر عليه السلام: هذا فراق بيني وبينك، إذ إنّك عالم بالشريعة أمّا أنا فعالم بالتكوين،

ولكل منّا مسير مختلف عن الآخر، إذ إنني أقوم بالمسؤوليات الملقاة على عاتقي، وأمّا أنت فتقوم بالوظائف التي أوكلت إليك، ولكن قبل أن ننفصل، فإنّي سوف أشرح لك حِكَم الأمور الذي قمت بها، فأمّا السفينة التي خرقتها فإنّه كان يوجد ملك في تلك المنطقة، يصادر كل السفن السالمة، وكانت تلك السفينة التي قمت بخرقها لعدّة فقراء يستفيدون منها لتأمين معاشهم وحياتهم، وقمت بهذا الأمر لأشوّه السفينة فلا يصادرها عمال ذلك الملك، ويستمر أصحابها بعد إصلاحها بكسب قوتهم من ورائها، وأمّا الغلام الذي قتلته فإنّه كان يستحق ذلك بسبب ارتداده وكان مهدور الدم، وأمّا الحائط الذي أصلحته، لأنّه كان

ص: 130

يوجد تحت ذلك الحائط كنز، وكان لولدين يتيمين، فقمت بإصلاحه وترميمه حتى لا يطلع على ذلك الكنز أحد سواهما، فيستفيدا منها بعد أن يكبرا.

وبناء على الآيات المذكورة أعلاه، فإنّ الخضر عليه السلامكان على علم بنيّة الملك الظالم لغصب السفن، كما كان يعلم نيّة ذلك الشاب في إضلال والديه، كما كان يعلم بحاجة اليتيمين لذلك الكنز في المستقبل، وكلّها من الأمور الخافية التي لا يمكن لأحد أن يطلع عليها، لذا كان للخضر عليه السلامحظ من علم الغيب، مع العلم بأنّه ليس من الرسل والأنبياء وأولي العزم، بل من الأنبياء الذين يمكن أن يوضعوا بالدرجة الثانية، فهل يمكن أن يكون لمثل هؤلاء حظ من علم الغيب، في حين أنّ خاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله لا يكون له حظ من ذلك.

بالإضافة إلى عدد من الأنبياء سواء من أولي العزم أو غيرهم، يوجد أشخاص عاديون يعلمون أموراً غيبية بإذن الله، إذ كيف يمكن لأم موسى أن تلقي بمهد طفلها الرضيع في مياه النيل المضطربة؟ ألم تكن قد توصلت عن طريق الإلهام الإلهي في نفسها إلى معرفة مستقبل ولدها موسى؟ يقول تعالى حول هذا في الآية الشريفة (7) من سورة القصص:

وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

وبالتالي فإنّ هناك طائفتين من آيات القرآن الكريم حول علم الغيب، إحداهما تحصر علم الغيب بالله عزّ وجلّ وتنفيه عن الآخرين، والطائفة الأخرى تثبته للأنبياء من أولي العزم وحتى لغير الأنبياء، عندها ما موقفنا تجاه هذه الآيات؟

إنّ الجواب على هذا السؤال وكيفية تفسير هاتين الطائفتين من آيات القرآن الكريم، وردت في آيات أخرى من القرآن الكريم، ويجب عندها أنّ نفسّر القرآن بالقرآن.

ففي الآيتين الشريفتين (27- 26) من سورة الجن نقرأ قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً.

ومعنى هذه الآية أنّ من يعلم الغيب هو الله عزّ وجلّ فحسب، ولكن من الممكن للأنبياء والأولياء أن يطلعوا عليه بتعليم من الله، لذا فإنّ المقصود من الطائفة الأولى من الآيات التي حصرت علم الغيب بالله، هو ذلك العلم الذي علمه الله عزّ وجلّ لأنبيائه وأوليائه، وهذا الأمر تمت الإشارة إليه في المباحث السابقة أثناء عرضنا للخطبة (128) من نهج البلاغة.

الآية الشريفة (59) من سورة الأنعام شاهد آخر على مدّعانا، حيث يقول تعالى:

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ.

وبناءً على هذه الآية الشريفة، فإنّ مفاتيح الغيب عند الله عزّ وجلّ فحسب، ولا توجد عند أحد غيره، وأمّا بناءً على ماذكره الإمام علي عليه السلامفي الخطبة (128) من نهج البلاغة، فإنّه أحياناً يمكن أن يطّلع غير الأنبياء والأئمّة مثل أم موسى عليه السلامعلى أمور غيبية وخفية بتعليم من الله عزّ وجلّ كما تم شرحه مسبقاً.

وبالتالي فإنّ علم الغيب مختص ذاتاً بالله عزّ وجلّ ومفاتيح الغيب عنده فحسب،

ولكن إذا أراد أن يطلع أحداً من عباده على ذلك، فهو يقوم به، وبتعبير آخر: إنّ علم الغيب الذاتي مختص بالله عزّ وجلّ، أمّا علم الغيب الاكتسابي فهو ممكن للأنبياء والأئمّة وأولياء الله عزّ وجلّ.

ص: 131

المدّعون الكاذبون:

في الفترة الأخيرة، للأسف الشديد، شهدنا ظاهرة جديدة لبعض المدّعين الكاذبين حيث نسمع أو نرى بين الحين والآخر ظهور شخص ما يدّعي علمه بالغيب وارتباطه بالإمام الحجّة عليه السلام، ونشير على سبيل المثال إلى نموذج لامرأة ادّعت قبل فترة أنّها مبعوثة ومرسلة من قبل الإمام الحجّة عليه السلاملهداية الناس، وكانت تقدم للناس قرآناً مدّعية أنّ الإمام عليه السلامقد أعطاها، وكانت تتلقى أموالًا كثيرة من الناس لتوصلها إلى الإمام عليه السلام، ثم ثبت بعد ذلك أنّ جميع ما تدّعيه كان كذباً خالصاً، وكانت تدّخر تلك الأموال في المصارف، وغرضها من ذلك كلّه أن تسلب أموال الناس!

إنّ مثل هؤلاء الأشخاص المخادعين يقومون بخداع الناس بمختلف الذرائع والطرق، وأحياناً عن طريق الادِّعاء بشفاء مرضاهم، وأحياناً تحت عنوان حلّ المشكلات الأسرية لهم، وأحياناً عبر العثور على أموالهم المسروقة، وأحياناً بحجة تزويج بناتهم اللاتي ينتظرن الزواج، في حين إنّ مثل هذه الأمور ليست إلّا ذرائع، والهدف الأصلي لهم في مثل ذلك هو سلب الأموال من الناس، وأنّ تزويج الفتيات اللاتي تأخر وقت زواجهن لا يحتاج إلى علم الغيب، بل إنّ إعمال القليل من التأمل والتفكير يوجهنا إلى سبب عدم زواجهن، كالطلبات غير المعقولة والمهور الثقيلة، وإعداد الجهاز المكلِّف، وإقامة الأعراس الباذخة، لا ريب أنّ مثل هذه الأمور تؤخر تزويج الفتيات.

أيّها الآباء الأعزاء! أيّتها الأمهات العزيزات! إذا تشدّدتم في أمر تزويج أبنائكم

وبناتكم المستعدون للزواج، وأدى تركهم له إلى ارتكابهم المعاصي، لا سمح الله، فإنّ هذه المعاصي والذنوب سوف تسجل في سجلّ أعمالكم، لأنّكم كنتم السبب في وقوعهم في المعاصي ولعبتم دوراً في ذلك، وعليكم أن تقتدوا بالنماذج الراقية في هذا المجال وليست لنا قدوات وأسوات أفضل من الإمام علي عليه السلاموفاطمة الزهراء عليها السلام؟ فكم كان جهاز زواجهما ومهرهما ومراسم زفافهما بسيطة وبدون أعباء (1).

أيّها القراء الأعزاء! إنّ المهور الثقيلة لا تقود العروس إلى طريق السعادة، بل غالباً ما تكون سبباً لاضطراب الحياة المشتركة، إذ قد يتوجّه شخص لطلب يد فتاة فيتلقى جواباً سلبياً، وعندما يسأل عن ذلك يقال له: لقد رفضت شخصاً آخر تقدم لخطبة ابنتي كان قد أتى بسيارته الفخمة، أمّا أنت فقد أتيت بهذه السيارة المتواضعة فماذا تتوقع منّي جواباً؟ نعم، إنّ مثل هذه الأمور تؤدي إلى تعنيس الفتيات والتأخير في زواج الشباب، لذا لا تتوجهوا بدون سبب إلى أولئك المخادعين وتنفقوا الأموال والثروات عليهم لأنّ مثل هذا الطريق المنحرف لا يصل بالإنسان إلى أي خير.


1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعليٍّ عليه السلامحول مهر فاطمة الزهراء عليها السلام: لقد زوجتك ابنتي فاطمة مقابل درعك ولعل أقصى قيمة ذكرتها الكتب التاريخية حول الدرع 500 درهم أي 20/ 1 من دية كل إنسان، وحول جهاز السيدة الزهراء عليها السلام، فقدروا أنّ جهازها كانت 18 شيئاً هي: لباس بقيمة 7 دراهم، وفرش وسرير اعدّ من سعف النخل، وكساء كبيرة بقيمة 4 دراهم، وأربع مخدات من جلد الخروف، وستار من الصوف، وقطعة حصير، ورحى صغيرة يدوية، وقربة جلد وإناء كبيرة لحلب اللبن وغيرها. (الزهراء أفضل نساء العالمين، ص 39- 41).

ص: 132

8- الأنفال

اشارة

السؤال الآخر من الأسئلة القرآنية التي تبدأ بجملة (يسألونك) هو السؤال الذي ورد في الآية الأولى من سورة الأنفال حيث يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَنْفالِ قُلِ الأَنْفالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

لفظة الأنفال:

إنّ الأنفال في اللغة بمعنى الإضافات، والفوائض، لذلك تطلق على الصلوات المستحبّة التي تضاف على الصلوات الواجبة اسم

الصلوات النوافل

، وقد وردت كلمة الأنفال في القرآن الكريم مرتين وكلاهما في الآية الأولى من سورة الأنفال، كما أنّ لفظة النافلة قد وردت في القرآن الكريم مرتين:

الأولى: حول فضل صلاة الليل وقيامه، حيث يقول تعالى في الآية الشريفة (79) من سورة الاسراء: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.

الثانية: حول سيدنا إبراهيم عليه السلاموحفيده يعقوب عليها السلام حيث يقول تعالى في الآية الشريفة (72) من سورة الأنبياء: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ

إذ منح الله عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السلامالذي كان قد بلغ سناً كبيراً ولم يكن له ولد، فمنحه الله ولدين إسماعيل وإسحق على كبر سنه، وبالإضافة إليهما منحه أيضاً حفيداً باسم يعقوب من نسل إسحق.

النتيجة: إنّ الأنفال في اللغة والاستعمالات القرآنية تستخدم بمعنى الإضافات.

ص: 133

الأنفال في الآية الشريفة:

إنّ المقصود من الأنفال في الآية الشريفة، يمكن أن يكون الغنائم الحربية، والعلاقة بين الغنائم الحربية والمعنى اللغوي للأنفال يعود إلى أنّه بما أنّه كان هدف المسلمين من القتال والجهاد في سبيله هو نيل رضى الله عزّ وجلّ، فإن كسبوا غنيمة من الغتائم فهو إضافة على ما قصدوه من هدف أصلي من الجهاد في سبيل الله وهو رضى الله عزّ وجلّ، لذا فسّروا الأنفال بالغنائم الحربية، ويستفاد من هذه الآية، أنّه يجب أن يكون الهدف الحقيقي للمسلم في الجهاد هو القيام بواجبه وجلب رضى الله عزّ وجلّ نحوه، وأمّا الغنائم الحربية فيجب أن تعتبر هدفاً إضافياً لذلك؟

العلاقة بين المصلحين والغنائم:

وأصلحوا ذات بينكم

ما علاقة هذه الجملة بالأنفال والغنائم الحربية؟

عندما نقرأ سبب نزول هذه الآية تتضح لنا تلك العلاقة:

اختلف شخصان مقاتلان من المسلمين في أحد الحروب على الغنائم، حيث تطوّر هذا الاختلاف بينهما إلى العنف وتبادل الكلمات النابية، نزلت هذه الآية لتوضيح أنّ هذه الغنائم ليست لكم، بل لله وللرسول، وكل من يراه رسول الله صلى الله عليه وآله صالحاً لذلك فله حصّة منها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحلّ النزاع بين الشخصين

ويدعوهما للصلح (1).

والمعنى الآخر للأنفال هي تلك الأملاك التي لا صاحب لها في أرجاء المعمورة، والتي يمكن أن تكون بشكل أساسي ما يلي:

1. الأراضي الموات.

2. الغابات.

3. سواحل البحار.

4. الجبال.

5. الوديان.

6. الأحراج.

7. المراتع التي لاتتواجد في ضواحي العمران.


1- مجمع البيان، ج 4، ص 425.

ص: 134

8. الأراضي التي تركها أصحابها وأعرضوا عنها أي الأراضي التي باد أهلها.

إنّ جميع مثل هذه الأراضي هي للحكومة الإسلاميّة، وكل من يريد أن يتملكها ويصلحها ويستفيد منها يجب أن يحصل على إذن من تلك الحكومة، حيث يستطيع بعد ذلك أن يصبح مالكاً شرعياً لها بعد إحيائها.

وفلسفة مثل هذه الإجازة ألَّا تصبح تلك الأراضي نصيباً وملكاً لفئة قليلة من أصحاب الثروات الذين يمتلكون تلك الأراضي ويحيونها ويتصرفون بها، بل يجب إعطاؤها من قبل الحكومة الإسلاميّة لأشخاص حتى يحيوها بناءً على المصالح وضمن حدود مصلحة المجتمع الإسلامي.

ص: 135

توزيع الثروة:

للأسف الشديد فإنّ التوزيع الظالم وغير العادل للثروة يعتبر مصيبة كبرى وداءً عضالًا لا دواء له في عالم اليوم، حيث تعكس الإحصائيات والأرقام ذلك، إذ إنّ

80% من ثروات العالم يمتلكها 20% من سكانها، وأما 20% الأخرى من ثروات العالم فهي تحت تصرف 80% من سكانها، وهذا الفاصل بين هاتين الطبقتين تزداد يوماً بعد يوم، حيث يزداد الأغنياء غنىً ويزداد الفقراء فقراً، وكل الاختلافات والنزاعات والمشاكل التي يعاني منها عالم اليوم هو نتيجة هذه المشكلة العضال، وللأسف الشديد فإنّ عالم اليوم لايمتلك أي برنامج لحل هذه المعضلة، وتحقيق التوزيع العادل للثروة، ولايمكن له أن يمتلك مثل هذا البرنامج لأنّ التفكير المادي لايسمح بالتوزيع العادل للثروة.

سؤال: هل يوجد في الإسلام برنامج لحل هذه المعضلة؟

جواب: نعم، إنّ الإسلام يمتلك برنامجاً لحلّ مثل هذه المعضلات وكافّة المشكلات والمسائل التي يحتاج الإنسان إليها حتى يوم القيامة، ومن يدّعي أن برامج الإسلام محصورة بالعبادات والطاعات، فهو جاهل ليس له علم بهذه الأمور، وبتعبير آخر قد يتخيل هؤلاء الواهمون أنّ الإسلام في برامجه يفكر فقط في خلق ارتباط بين الخلق والخالق، ولكنه يفتقر إلى برامج حول علاقة الخلق بالخالق، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر حجّة له والمعروفة بحجّة الوداع الكثير من هذه الأمور حيث قال:

ي- ا أيُّها النَّاسُ وَاللهِ مَا مِنْ شَي ء يُقَرِّبُكُم مِنَ الجَنِّةِ وَيُباعِدُكُم مِنَ النّارِ إِلّا وَقَدْ أَمَرتُكُم بِهِ وَم- ا مِنْ شَي ء يُقَرِّبُكُم مِنَ النَّارِ وَيُباعِدُكُم مِنَ الجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهيتُكُم عَنْهُ

(1).

نعم، كل مايحتاج إليه الإسلام تمّ طرحه وذكره من قبله، كل شي ء موجود في الإسلام ولكننا لم نفهم الإسلام فهماً صحيحاً، إذ نمتلك من المعارف والعلوم التي لا نقدِّرها أو نعرف قدرها، ولا ندركها إلّا بعد سنوات وأحياناً مئات السنوات، وأخيراً كان لدي حديث مع مسؤولي القضاء تحدثنا عن بعض الأمور منها مجالس حلّ النزاعات، حيث بدأت هذه المجالس أعمالها ونشاطاتها منذ عدّة سنوات، وكانت


1- بحار الأنوار، ج 70، ص 96، ح 3.

ص: 136

لها ثمرات ونتائج جيدة، حتى إنّ 50% من ملفات القضاء تم تخفيضها بعد بدء هذه المجالس أعمالها، وأنّ كثيراً من النزاعات بين الناس التي كانت تستغرق أحياناً أشهراً وسنوات لحلّها، وكان يجب الانتظار لحلّها خلال تلك الأشهر، كانت تحلّ من قبل هذه المجالس خلال مدة قصيرة جدّاً، وإنّ مثل هذا النموذج للمجالس التي فكرنا في إنشائها حديثاً، هي أحد تعاليم القرآن الكريم التي وردت تحت عنوان (الحكمية) (1) والتي أشار إليها القرآن الكريم قبل 1400 سنة، نعم، إنّ لدينا أشياء كثيرة ولكننا غافلون عنها.


1- انظر: سورة ا لنساء، الآية 35.

ص: 137

برامج الاسلام للتوزيع العادل للثروة:

إنّ للإسلام برنامجاً للتوزيع العادل للثروة، ولتوضيح ذلك نقول: إنّ في الإسلام ثلاثة أنواع للملكية:

الملكية الخاصة: كل إنسان يستطيع أن يسعى ويعمل ويجهد ويكون مالكاً لنتيجة جهوده، طبعاً فإنّ للملكية الشخصية حدوداً وضوابط.

الملكية العامة: هي تلك الأموال التي لا مالك خاصاً لها، بل إنّ عموم الناس مالكون لها مثل الأراضي الخراجية التي شرحناها بالتفصيل في الفقه.

ملكية الدولة الإسلاميّة: حيث تعدّ الأنفال جزءاً منها، قد مرّ التفصيل حولها، وتقوم الحكومة الإسلاميّة في حالة الضرورة بتوزيع أملاكها بين أفراد المجتمع بصورة عادلة حتى يتمّ عن طريق ذلك حلّ المشاكل التي قد تنشأ، فإذا تمّت مراعاة برنامج الملكيات الثلاثة في الإسلام بشكل دقيق وتطبيق ذلك، فإنّه يتمّ حلّ معضلة التوزيع غير العادل للثروة.

توصية للمسؤولين:

يجب على المسؤولين المحترمين أن يتجنبوا التشدد في تسليم المنابع والإمكانات ووضعها بتصرف الناس لاسيما طبقة الشباب، إذ توجد في بلادنا أراض موات كثيرة، وتوجد في باطن كل أرض منها مائدة من الماء، حيث يمكن عن طريق

ص: 138

حفر بئر عميقة الاستفادة من تلك المياه، ويجب أن يتمّ تسليم تلك الأراضي للشباب ضمن شروط، حتى يستطيعوا أن يعملوا فيها، فإذا تمّ إعمار كافّة الأراضي الموات، فإننا سوف نكون قادرين على تأمين القمح لنصف سكان العالم.

ومن جهة أخرى، فإنّ الجامعات تهي ء الشباب للعمل الإداري فقط، وهذا الأمر ليس بصحيح، بل عليهم أن يعملوا على تشجيعهم للعمل في المزارع والمصانع والمراتع والمراعي، وباقي الأعمال الإنتاجية الأخرى، ويهيئوهم لذلك، حتى يخلق أهلنا وشعبنا ملحمة جديدة، ألم يكن بلدنا قبل عدة سنوات يستورد القمح؟ ولكن بفضل المشاريع والخطط والبرامج والجهود التي تمّت، فإننا استطعنا أن نؤمن الكثير من حاجاتنا الداخلية بل أصبحنا جزءاً من مصدِّري القمح، نعم إنّ الشعب هو نفسه، والماء هو نفسه، والتربة هي نفسها، ولكننا نحتاج إلى إدارة فاعلة تبث حالة القفزة نحو الأمام وخلق مثل هذه الطفرات ممكن أيضاً، يقول الإمام علي عليه السلام

مَنْ وَجَدَ م- اءً وَتُراباً ثُمَّ افْتَقَرَ فَأبعَدَهُ اللهُ

(1) نعم مع وجود الإمكانات الهائلة من حيث الماء والأرض في بلادنا، إذا أصبحنا محتاجين للآخرين، فإننا سوف نبتعد عن الرحمة الإلهيّة، وفي الحقيقة فلنتصور أنّه لو حدث نزاع بيننا وبين الدول التي نستورد منها القمح، فقطعوا عنا القمح فماذا سوف يحلّ بشعبنا؟


1- بحار الأنوار، ج 100، ص 65.

ص: 139

ضرورة الاهتمام بالتوزيع العادل للثروة:

سنوياً يفقد الملايين من الناس حياتهم نتيجة المجاعة، كما يموت الملايين من

الأطفال بسبب سوء التغذية، في حين من طرف آخر فإنّه نلاحظ أنّ الكثير من مزابل العالم، هنا وهناك، تكون مليئة بالمواد الغذائية التي يمكن أن تنقذ مجموعة كبيرة من الناس من الموت جوعاً، ومن جهة أخرى من العالم يبنون لكلابهم وقططهم وسائر حيواناتهم الأليفة مستشفيات وعيادات متخصصة طويلة وعريضة، وينفقون مبالغ ضخمة في سبيل المحافظة عليها، ومن ناحية أخرى للعالم نلاحظ أنّه لايوجد أدنى حدّ من الإمكانات العلاجية لعلاج المرضى من البشر.

ومن المفارقات، أن نلاحظ أنّه في ذلك الطرف من العالم يتم إنتاج المشروبات الغازية بأنواع مختلفة يتحير المستهلك في اختيار أي منها، ومن ناحية أخرى توجد عدة من الناس الذين لايجدون مياهاً للشرب حتى تلك المياه الغير الصحية، من ناحية نلاحظ أنّه في ذلك الطرف من العالم توجد بيوت مليئة بالأبهة والجمال وتمتاز بكافة الإمكانات، بل إنه توجد بيوت ذكية، بحيث إنّه إذا ترك صاحب ذلك المنزل منزله وتوجه للسفر، ودخل سارق إلى ذلك المنزل، يواجه بنظام يعمل بشكل أتوماتيكي على إبلاغ الشرطة وإبلاغ صاحب المنزل، بل إنّه توجد عدّة كاميرات ومدارات فيلمية مغلقة، تقوم بتصوير السارقين، وبالتالي فإنّهم يقومون بضبط وتسجيل كل حادثة يمكن أن تقع، في حين في الطرف الآخر من العالم لا يوجد منزل متواضع لبعض الناس تحميهم من الحر والبرد ليلجؤوا إليه!

إنّ التوزيع غير العادل للثروة في العالم، من المفارقات العجيبة التي أشرنا إلى نماذج منها فيما سبق، وعلى الرغم من أنّ بعض الدول الكبرى ترفع شعارات خادعة للقضاء على مثل هذه المعضلة الاجتماعية الكبرى، لكنهم لايخطون أيّة خطوة

ص: 140

عملية في هذا المجال، لذا نلاحظ بأنّه تزداد المسافة الفاصلة بين الفقراء والأغنياء، وبما أنّ مثل هذا الأمر يؤدي إلى ظهور أخطار هامة على سطح العالم وتؤثرعلى جميع الناس، لذلك ينبغي البحث عن طرق حل له.

الحلّ الإسلامي:

اشارة

كما ذكرنا سابقاً، فإنّه لا يمكن البحث عن حل ودواء لمثل هذا المرض الخطير الذي يعذب جسم البشرية وروحها في عالم المادة، لأنّ التفكير المادي لا يسمح للتوزيع العادل للثروة، ولكن الإسلام يقدم العلاج الناجح لهذا المرض الأليم وغيره من الأمراض التي تعاني منها البشرية ويتمثل: بأنّه يجب دمج المبادئ الأخلاقية في المسائل الاقتصادية ومنع مفهوم الاقتصاد بلا أخلاق، نعم إذا تم تحكيم الأخلاق في مختلف طبقات الاقتصاد، أي من إنتاج البضاعة وتوزيعها واستهلاكها وكانت هذه المراحل مندمجة مع المبادئ الأخلاقية، فإنّه لا شك بأنّ المسافة الفاصلة بين الفقراء والأغنياء سوف تتقلص يوماً بعد يوم، وسوف يتمّ توزيع الثروة بشكل عادل بين جميع الناس، وإليكم بعض النماذج من التعليمات الإسلاميّة في هذا المجال:

1. التأكيد على الرزق الحلال:

يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:

العِبادَةُ سَبعُونَ جُزءاً وَأَفضَلُها جُزءاً طَلَبُ الحَلالِ

(1)، فهل يسعى عالم اليوم إلى الرزق الحلال؟ أبداً.

يقول الإسلام: كل ما يؤدي إلى الإضرار بالمجتمع البشري، فإنّه يحرم إنتاجه وتوزيعه، وحفظه، وشراؤه وبيعه، واستهلاكه، وكذلك يحرم كل نشاط يؤدي إليه، ولكن اليوم نلاحظ أنّ أهم وأكثر التجارات في عالم المادة من حيث الدخل هي تجارة الأسلحة المميتة التي حرّم الإسلام إنتاجها أوشراءها وخزنها، فلو منع عالم اليوم، طبقاً للأحكام الإسلاميّة، تجارة مثل هذه الأسلحة، فإنّه سوف يتمّ الوقوف أمام قسم مهم من التراكم غير المشروع للثروة.

أمّا التجارة الثانية من حيث الدخل المادي فهي تجارة المخدرات، حيث نلاحظ الكثير من سياسي عصرنا قد تلوثوا به، فعندما يتمّ تهريب مقدار مهم من المواد


1- سفينة البحار، ج 2، ص 318.

ص: 141

لمخدرة خلال مدّة قصيرة من دولة المنشأ إلى الدول المستهلكة، حيث يتمّ نقلها وتوزيعها بين المدمنين، فلا تتخيلوا أنّ مثل هذا الأمر يتمّ بواسطة المهربين فحسب، بل إنّ تسهيل هذا الأمر يأتي بعد تلقي الضوء الأخضر من السياسيين المؤثرين في الدول المختلفة الذين يسهلون الأمر للمهربين، بل إنّ المهربين يعطون نسبة من أرباحهم لأولئك السياسيين.

حرّم الإسلام كل نشاط يتعلق بالمواد المخدرة (1).

فلو عمل عالم اليوم بهذا الحكم لم يكن هناك أي خبر عن مثل هذه الأعداد من المدمنين في أنحاء العالم، ولم نكن بحاجة إلى تلك المصحّات والمستشفيات المختلفة والمتخصصة في علاج المدمنين، ولم نكن نواجه ازدياد ثروات الأغنياء يوماً بعد يوم من تجارة هذه المواد، نعم، من المنظور الإسلامي، فإن كل شي ء نتيجته محرمة تكون مقدّماته محرمة أيضاً، وإنّ الثروات المتراكمة عند بعض الأشخاص من أغنياء العالم هي نتيجة هذه الأعمال المحرمة، ولا شك أن محاربة مثل هذا الظاهرة، تؤدي إلى تقليل المسافة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء.


1- نوجه انتباه القراء الأعزاء إلى نماذج من استفتاءات المرجع الكبير آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظلّه) حول هذا الأمر إليكم نموذج منها: سؤال: ما رأي سماحتكم حول استخدام المواد المخدرة ومقدماتها مثل زرعها وانتاجها وخزنها وإخفائها ونقلها وتوزيعها وبيعها وشرائها؟ جواب: لا شك أنّ استعمال المواد المخدرة تعتبر من الذنوب والمعاصي الكبيرة التي تدل الأدلة الشرعية المختلفة على الحرمة القطعية لها، ويجب على جميع المسلمين أن يجتنبوا مثل هذه المواد الفاسدة الضارة ويحذّروا أولادهم وأقاربهم ومعارفهم بشدّة منها، وكل من يقوم بدعم وزراعة وإعداد وحمل ونقل وتوزيع مثل هذه المواد سوف يكون مشمولًا بالعقاب الإلهي، وكل ما يحصلون عليه من ثروة فهو حرام وغير مشروع، ويجب على جميع المسلمين أن يعلموا أنّ إحدى المحططات الخطيرة للأعداء من أجل القضاء على إيمان وقدرة الشباب هو تعزيز وتوسعة المواد المخدرة، ولهذا يجب على الحكومات الإسلاميّة، وكافة الناس فرداً فرداً أن يحاربوا هذه المواد، ونسأل الله عزّ وجلّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يكون فيه قد استئصلت المواد المخدرة من أراضي الدول الإسلاميّة (الاستفتاءات الجديدة، ج 2، ص 748).

ص: 142

2. تحريم إيجاد الأسواق السوداء:

جاء أشخاص إلى الإمام الصادق عليه السلام، وقالوا له: يا ابن رسول الله! لقد أعددنا قافلة للتجارة وبيع بضائعنا ونتوجه بها إلى مصر مع أصدقائنا التجار، وقبل الدخول إلى مصر سألنا بعض المسافرين الذين يريدون الخروج من ذلك البلد عن الفرصة الاقتصادية لبيع مثل هذه البضائع التي في حوزتنا، عندها علمنا بأنّ السوق هناك تحتاج بشدّة إلى البضائع التي معنا، ولهذا اتفق جميع تجّار القافلة على بيع تلك البضائع التي معنا بأسعار عالية، فلا نقبل ببيعها بأقل من ذلك المقدار المعيّن من الربح، وقمنا بذلك وحققنا أرباحاً هائلة فما حكم عملنا ذلك؟

فقال عليه السلام:

لَقَدْ ارتَكَبتُم حَراماً

(1).

نعم، فلا ينبغي للمسلمين أن يقيموا أسواقاً سوداء، فإذا احتاج الناس بضاعتك فلا ينبغي لك أن ترفع قيمتها، وللأسف فإنّ هناك عدداً من الدول الأوربية تقوم بإلقاء كميات كبيرة من المواد الغذائية في البحر، حتى لا يكسروا من قيمة تلك البضائع!

إنّ الإسلام بتحريمه مثل هذه النشاطات يردع تراكم الثروات غير المشروعة الناجمة من السوق السوداء.


1- بحار الأنوار، ج 47، ص 59، ح 111.

ص: 143

3. تحريم الربا:

إنّ الربا أهم مصادر دخول مصارف العالم المادي، لأنّ آكل الربا يحصل على ربح خاص ولا يهمّه الضرر الذي يحل بطالب القرض، إذ يجب على طالب القرض تحت أي ظرف من الظروف أن يعيد ما استقرضه من الفائدة حتى لو تضرّر من ذلك، بل أحياناً تضاف إلى ذلك أيضاً أرباح مضاعفة وغرامات تأخير، عند عدم القدرة على الدفع يقومون ببيع سنداته، ويحصلوا على مطالباتهم.

لذلك تزداد ثروات المرابي يوماً بعد يوم ويتزايد رأسماله وأمثاله يوماً بعد يوم

ويزداد المقترضون فقراً يوماً بعد يوم بل تتدمر حياتهم نتيجة لذلك.

ص: 144

لقد حرم الإسلام مثل هذا النشاط غير المشروع لأنّ المرابي لا يقوم بأي عمل إيجابي، وهو يفكر في كل الظروف بزيادة ثروته ورأسماله بأي شكل من الاشكال، بل إنّه حاضر لوضع دماء الناس في زجاجة ويقوم بامتصاصها مثل العلق، دون أن يرضى بأن يضيع ريال واحد من فائدته، وأنّ البنك العالمي بمثل هذه القروض الربوية التي تصل فيها الفائدة على كل دولار واحد عشرة أمثالها، يقوم هذا البنك بإذلال الشعوب المستضعفة.

والإسلام بتحريمه الربا وقف أمام العوامل الهامة للتوزيع غير العادل للثروة، فلو اهتم المسلمون بل وغير المسلمين بتلك الروايات الواردة في هذا المجال التي تنهى عن مثل هذا الأمر بأقسى الأساليب، وتبيّن مفاسدها المتنوعة والمتعددة التي تصيب الفرد والمجتمع (1)، والتي تؤدي أحياناً إلى الإضطرابات الإجتماعية، بل إنّها قد اعتبرت مثل هذه الأمور بحكم محاربة وإعلان القتال على الله، فلو تمّ الاهتمام بذلك كلّه لما تم التلوث بمثل هذه المعصية الكبرى.


1- لمزيد من الاطلاع انظر إلى كتابنا (الربا والصيرفة الإسلاميّة).

ص: 145

4. تحريم الرشوة:

لا ريب أنّ الارتشاء قد يروج في المعاملات والصفقات الهامة تحت عناوين متعدّدة مثل: العمولة والهدية وغير ذلك من العناوين البسيطة، والكثير من الشحنات النفطية الصناعية والأسلحة وأمثالها لا يمكن أن تصل إلى مقاصدها بسهولة إلّا عن طريق الرشى والسمسرة حيث يقوم المرتشون والسماسرة بإعداد تراخيص نقل هذه البضائع، وهذا الأمر قبيح جدّاً وهو أحد عوامل تجميع الثروات وزيادة المسافة الفاصلة بين الطبقات.

وقد حكم الإسلام على الراشي والمرتشي بالنار فقد ورد في الحديث:

الرَّاشِي وَالمُرتَشِي فِي النَّارِ

(1).


1- ميزان الحكمة، ج 4، ص 1467، الباب 1511، ح 7667.

ص: 146

5. الغش في المعاملة:

نشهد في عالم اليوم الكثير من المصانع التي تقوم بإنتاج البضائع وتختم عليها شعارات وعلامات دول أخرى لكي تسهل بيعها، وهذا الأمر يعتبر غشاً في المعاملة، والإسلام حّرمه، فقد ورد في الحديث الشريف:

إنَّ الغِشَّ لا يَحلّ

(1).


1- المصدر السابق، ج 7، ص 2992، الباب 3062، ح 14949.

ص: 147

6. القنوات الفضائية والمواقع المفسدة على الانترنت:

عمّ الفساد والإفساد في عالم اليوم عن طريق الأقمار الصناعية ومواقع الانترنت، وأخيراً عن طريق الهواتف النقالة، حتى انطبق على عالم اليوم الحديث المعروف:

كَما مُلئَتْ ظُلماً وَجَوراً

(1).

وقد عكست الإحصاءات التي نشرت أخيراً من قبل بعض المسؤولين المطلعين على هذا الأمر، أنّ الأُسر الإيرانية تشاهد عن طريق الأقمار الصناعية والصحون اللاقطة 1700 قناة تلفزيونية من بينها عدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد مختص بالمسائل العلمية والإخبارية، أمّا باقي تلك القنوات بشكل عام تحوي برامج فاسدة يمكن وصفها بأنّها مخجلة وتخدش الحياء، فكيف إذا تمّ بثها ومشاهدتها! إنّ هذه البرامج القبيحة تؤدي إلى تدمير الأسرو تعليم السرقة و الفحشاء وبيع الأجساد والمثلية وأمثال ذلك وتنقل الفساد إلى مشاهديها، وأنّ مثل هذه الأقمار الصناعية والمواقع الفاسدة، وبغرض الحصول على دخول أكثر فإنّها تجر العالم إلى الفساد، ومن الغريب

أنّه عندما تصدر فتوى بتحريم مثل هذه الوسائل المفسدة والمنتجة للمعاصي، فإنّه تتمّ مواجهتها من قبل بعض الأشخاص الجاهلين بأنّها مخالفة للحرية، فهل تعتبر الوسيلة التي تؤدي إلى إفساد أعراض الناس والشباب شيئاً مناسباً؟

وهل يقبل الناس الحرية التي تكون ثمرتها فساد الشباب وانحرافهم؟

وإنّي أخاطب أولئك الأشخاص الذين ينصبون الصحون اللاقطة على سطوح منازلهم بشكل مخفي أو ظاهر. إنّكم حين تخلدون للنوم تاركين ابنكم وبنتكم يشاهدان بعد منتصف الليل تلك البرامج المفسده التي تثير شهواتهم، فأدى ذلك إلى اعتداء أحدهم على الآخر فأين تذهبون بهذا العار؟ وقد وصلت إلينا نماذج من مثل هذه العلاقات القبيحة في بعض رسائل الاستفتاءات، بحيث وصل الأمر أنّه تقام علاقات بين الأخ والأخت أو بين الأب وبنته وتؤدي إلى الحمل بجنين من ذلك! ولهذا أوصي الآباء والأمهات ألا يهيئوا أرضية الفساد والإفساد بأيديهم لأسرهم ولأنفسهم عبر وسائل وأدوات تؤدي إلى الشقاء والعار لهم، بل يجب عليكم أن تراقبوا أكثر فأكثر أولادكم الذين هم أمانة إلهية بين أيديكم.


1- المصدر السابق، ج 1، ص 247، الباب 252، ح 1244.

ص: 148

7. كنز الثروات ممنوع:

يقول تعالى في الآية (34) من سورة التوبة حول من يكنزون الثروات ما يلي: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم

إذ إنّ تلك الدراهم والدنانير التي تم كنزها تصهر يوم القيامة وتوضع على جباه وظهور وأكتاف من قاموا بكنزها.

سؤال: ما المقصود من كنز الثروة؟

جواب: ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات متعددة (1) نشير إلى نموذجين منها:

1. إنّ المقصود من ذلك عدم دفع الزكاة وسائر الحقوق الشرعية، لذا فإنّ من يقوم بدفع زكاته وسائر حقوقه الشرعية ليس ممن يكنز الثروة مهما بلغت أمواله.

2. لا يكفي دفع الزكاة وسائر الحقوق الشرعية الواجبة، لأنّه إذا أصبح المجتمع فقيراً ومحتاجاً ولم تلبِّ الزكاة وسائر الحقوق الشرعية الأخرى حاجات المجتمع، عندها يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تحدد مستوىً معيناً لثروات الأفراد، بحيث يعدّ ما فاض عن ذلك كنزاً للثروة ينبغي تعديلها وإصلاحها، ثم إنّ استخدام الثروة بهدف الإنتاج وتأسيس مراكز المساعدة وأمثال ذلك لا إشكال في ذلك، ولكن المهم أن لا تبقى تلك الثروات خارج عجلة الاقتصاد ومحصورة بالادّخار فحسب (2).


1- التفسير الأمثل، ج 5، ذيل الآية المذكورة.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 47.

ص: 149

8. الربح بشكل عادل:

قال الإمام الصادق عليه السلاملغلامه:

لقد زادت مخارجنا وتكاليفنا، فخُذ هذا الكيس من المال وفيه ألف دينار وتاجر به حتى نصرف أرباحه على مخارجنا وتكاليفنا، فأخذها الغلام وأعدّ منها مالًا للتجارة وسافر مع قافلة إلى مصر ورجع بربح كبير، وقدّم كيسين من المال في كل واحد منهما ألف دينار للإمام عليه السلاموقال: إنّ الألف الأولى هي أصل

المال والألف الثانية ربحه، فردّ عليه الإمام بتعجب وغضب قائلًا: هل أخذت من الناس ربحاً بمقدار مائة في المائة! ثم أخذ أصل المال وأرجع الربح

(1).

نعم يدعو الإسلام إلى وجوب العدل في الربح أيضاً، في حين نلاحظ في عالم اليوم أنّ هناك بضائع يقدّر ثمنها مئة دولار عند عَبَدة المادة ولكنهم يبيعونها بعشرة أضعاف أو خمسين ضعفاً، وهذا الربح غير العادل من عوامل زيادة الهوّة بين الطبقات.

عليه فإنّ الإسلام عبر دمجه الأخلاق بالاقتصاد، وطرحه لما ينبغي وما لا ينبغي من الناحية الاقتصادية فإنّه قام عملياً بتقليل منابع توليد الثروات غير المشروعة التي تؤدي إلى التوزيع غير العادل للثروة، وأقفل الطريق أمام تلك الأمور حتى يتم توزيع الثروة بشكل عادل بين جميع طبقات المجتمع.


1- ميزان الحكمة، ج 2، ص 902، الباب 937، ح 4293.

ص: 150

9- ماهيّة الروح

اشارة

إنّ السؤال الآخر من الأسئلة القرآنية، ورد في الآية الشريفة 85 من سورة الإسراء حيث يقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

أسباب النّزول

لقد أوردَ المفسّرون قصّة سبب نزول الآيات خلاصتها أنَّ سادة قريش اجتمعوا ليبحثوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وقرروا إرسال اثنين منهم إلى أحبار اليهود في المدينة، والاثنان هما النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط.

ص: 151

قالَ زعماء قريش لهؤلاء: إسألا أحبار اليهود عن محمّد وصفا لهم صفته، وخبّراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم مِن علم الأنبياء ما ليسَ عندنا.

فخرجا حتى قَدِما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النّبي صلى الله عليه وآله وقالا لهم ما قالت قريش.

فقالَ لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مُرسل، وإن لم يفعل فهو رجل مُتقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كانَ مِن أمرهم، فإنَّهُ قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ

مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو.

وفي رواية اخرى قالوا: فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصلِ ما بينكم وبين محمّد. وقصّا عليهم القصة.

فجاؤوا إلى النّبي صلى الله عليه وآله فسألوه، فقال صلى الله عليه وآله: أخبركم بما سألتم غداً ولم يستثن- أي لم يقل إن شاءالله- فانصرفوا عنهُ، ومكث صلى الله عليه وآله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكّة وتكلّموا في ذلك. فشقّ على رسول الله صلى الله عليه وآله ما يتكلم به أهل مكّة، ثمّ جاءه جبرائيل عليه السلامعن الله بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنهُ من أمر الفتية والرجل الطوّاف. وأنزل عليه آية ويسألونك عن الرّوح (1).

وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل حين جاءه:

لقد احتبست عنّي يا جبرائيل

فقال لهُ جبرائيل عليه السلام: وما نتنزَّل إلَّا بأمر ربّك لهُ ما بين أيدينا.

مِن الجدير بالذكر هُنا أنَّ سورة الكهف تضمّنت الجواب على سؤالين مِن الأسئلة الثلاثة. إلَّا أنَّ الآية التي تتحدث عن الروح قد مرّت علينا في سورة الإسراء، وهذا أمرٌ لا يندر حدوثه في القرآن، إذ تنزل آية في مُناسبة معيّنة، ثمّ توضع بأمر الرّسول صلى الله عليه وآله في سورة اخرى (2).


1- سورة الإسراء، الآية 85.
2- التفسير الأمثل، سورة الكهف.

ص: 152

لفظة الروح في القرآن الكريم:

استخدمت كلمة (الروح) في القرآن الكريم في معان مختلفة نشير إليها:

1. القرآن: ويشهد على ذلك الآية (52) من سورة الشورى حيث يقول تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا.

2. الملك العظيم الذي ينزل ليلة القدر، وهذا ما تشير إليه الآية (4) من سورة القدر حيث يقول تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر.

3. التأييدات والإمدادات الإلهيّة، حيث عبّر في الآيات القرآنية الكريمة عن الإمدادت المعنوية الباطنية النورانيّة الإلهيّة بالروح، ومنها الآية الشريفة (87) من سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو روح القدس نفسه الذي كان مع جميع الأنبياء والأئمّة، وأحياناً يكون مع الصالحين والطاهرين والمحسنين.

4. الروح الذي يقابل الجسم، مثلما نقول بأنّ الإنسان مركب من جسم وروح يقول تعالى في الآية (29) من سورة الحِجر حول خلق آدم: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (1).

ولا ريب أنّ المقصود من الروح في الآية التي سوف نبحث عنها 85 من سورة الإسراء هو المعنى الرابع أي روح الإنسان.


1- وقد تكررت الآية الكريمة في سورة ص، الآية 72.

ص: 153

نظرة الإلهيين والماديين إلى الروح:

إنّ البحث حول الروح الإنسانية يعتبر الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين، إذ يعتقد الإلهيّون أنّ الإنسان مركب ثنائي له جسم وروح، وبعد موته تنفصل روحه عن جسمه وتبقى حية وتعود إلى الجسم يوم القيامة حيث ترتبط به ويتحقق المعاد الجسماني والروحاني.

أمّا الماديون فينكرون مثل هذه الفكرة ولا يعتقدون بأنّ الإنسان مركب من جسم وروح بل مركب من جسم فحسب، وأنّ الفكر والتدبير والعقل والذكاء وأمثال ذلك من الخواص الكيمياوية والفيزياوية لمادته الدماغية، الذي لا يرون منعاً من إطلاق

الروح عليه ولكن بعد موت الإنسان يتلاشى هذا الروح ولا يحيى من جديد، إذ إنّهم يشَبِّهونَ دماغ الإنسان وما تعززه من مواد وخواصها بتلك الغدد اللعابية في جسم الإنسان التي لها خواص كيمياوية وفيزياوية.

ص: 154

توضيح ذلك:

إنّ الينابيع غير المرئية الموجودة تحت اللسان وفي أطراف الفم تنشط يومياً وطوال الساعة وتقوم بأمرين هامين:

1. النشاط الفيزيائي: حيث تقوم تلك المفرزات بترطيب الأطعمة التي تدخل إلى الفم ليسهل بلعها، فإن لم تكن هذه الغدد اللعابية موجودة في الإنسان لواجه مشاكل عديدة في أكل الأغذية الصلبة مثل الرز، ولم يكن قادراً على تناول الحساء وغيره من الأكلات المائعة.

ومن عجائب هذه الغدة اللعابية أنّها تفرز بشكل أكثر عندما يكون الغذاء قاسياً أكثر، وعندما نأكل أحياناً غذاءً حامضاً مضراً بالمعدة فإنّها تفرز أيضاً اللعاب أكثر حتى تخفف من تلك الحموضة، وتصبح قابلة للبلع.

والأعجب من ذلك أنّه إذا فكر الإنسان بالطعام الحامض فإنّ هذه الغدد اللعابية تفرز موادها أيضاً.

بالإضافة إلى ما تقوم به من ترطيب اللسان ممّا يساعد الإنسان على الكلام إذ إن لم تكن هذه المفرزات موجودة لعجز الإنسان عن الكلام بعد مدّة قصيرة.

2. الخاصية الكيميائية: إنّ المواد الموجودة في لعاب الإنسان يؤدي اختلاطها مع الأطعمة الواردة إلى فم الإنسان إلى إنجاز المرحلة الأولى من الهضم، ويعتقد الباحثون أنّ الهضم الأول للطعام يتم في الفم والهضم الثاني يجري في المعدة، ولأجل هذا فإنّ من مستحبّات الأكل، كما ورد في الرسائل العلمية للمراجع العظام عدم العجلة في المضغ التطويل فيه، فيمضغه جيداً وأولئك الأشخاص الذين يقومون

بالتعجيل في بلع الطعام فإنّهم فقدوا المرحلة الأولى من الهضم في الفم وصعبوا عمل المعدة.

إنّ هذه الغدد الفعالة في فم الإنسان التي تعمل طوال حياته دليل على عظمة الله عزّ وجلّ بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون وجودها، وعليه فعندما يشبه الماديون الروح بلعاب الفم وآثارها الفيزيائية والكيميائية ويعتبرون أن كليهما مادية ولا يؤمنون بشي ء ممّا وراء عالم الحس والمعنى.

رأي الإلهيين بشكل أوضح:

إنّ الإنسان مركب من حقيقتين، إحداهما قليلة القيمة، والأخرى ذات قيمة عالية، إذ إنّ البعد الجسمي للإنسان قليل القيمة حيث وصفه الله عزّ وجلّ بقولة: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ صَلْصال مِنْ حَمَإ (1).


1- سورة الحجر، الآية 26، وكذلك ورد مضمون هذه الآية في الآيتين 28 و 33.

ص: 155

وبناءً على هذه الآية الشريفة، فإنّ الإنسان لم يخلق من طين عادي بل خلق من ثفالة الطين ذي الرائحة متعفنة، وفي هذا دليل على عظمة الله عزّ وجلّ وقدرته حيث خلق مخلوقاً شريفاً من هذا الطين المتعفن، والذي يعتبر هذا المخلوق من أشرف الموجودات في العالم ومن أعلاها، ويعتقد الباحثون في العلوم الطبيعية أنّ أوّل آثار الحياة وجدت في الأطيان والأتربة التي نشأت حول البحار، أمّا العنصر الآخر للإنسان فهو الروح الذي وصفه الله عزّ وجلّ بروحه، لعظمة شرفه وعظمته في حين نعلم أنّ الله ليس له روح وجسم، كما وصف الكعبة ببيت الله لشدّة شرفها وعظمتها في حين أنّه ليس بجسم حتى يحتاج إلى بيت وهذا الموضوع أيضاً يصدق على شهر الله عزّ وجلّ، وفي النتيجة، بما أن الإنسان مركب من جسم وروح وبما أنّ الشيطان كان خبيثاً وملوثاً بالتكبر والحسد والغرور فإنّه لم ينظر إلى الجانب الروحي للإنسان بل إلى الجانب المادي له من حمأ مسنون وقال: لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصال مِنْ حَمَإ مَسْنُون (1).

نعم، إنّ الأنانية والحسد والغرور والتكبر تمنع الإنسان عن إدراك حقيقة الأشياء، وتردي بصاحبها إلى الضلال والشقاء


1- سورة الحجر، الآية 33.

ص: 156

أدلة وجود الروح:

اشارة

توجد أدلة كثيرة لإثبات وجود الروح أشرنا إليها في الجزء الخامس من كتابنا (نفحات القرآن)، وفيمايلي سوف نقوم بالإشارة إلى ثلاثة نماذج منه بشكل مختصر:

1. الدليل العقلي:

لكل منا ذكريات عن مرحلة طفولته ونشأته ومرحلة دراسته وخدمته العسكرية، وما حدث أثناء قيام الثورة الإسلاميّة وخلال حرب ثمان السنوات المفروضة، وغير ذلك ممّا نحفظه في ذاكرتنا وتبقى هذه الذكريات لسنوات في ذهننا ولا يطرأ عليها أي تغير، في حين أنّ مادة الدماغ في تحول دائم وتتبدل كل سنة بشكل كلّي، فكيف تبقى هذه الذكريات باقية معنا على الرغم من تبدل هذه المادة؟ وأين تقع ملفات ذكرياتنا من الدماغ؟ وأين تتوضع جميع تلك الصور عن الماضي القريب والبعيد في دماغنا؟ ولو جعلنا المادة الدماغية تحت مجهر دقيق ومتطور جدّاً نستطيع أن نكتشف به أدق وأكثر الجراثيم تطوراً فإننا لن نستطيع إيجاد تلك الصور والذكريات التي نتذكرها، إذاً فإنّ مكان تلك الذكريات والصور تقع أبعد من الدماغ وجسم الإنسان وتسمى الروح ولكن أين تقع الروح؟ نعم، إنّ جميع تلك الملفات والذكريات تحفظ مؤرشفة في ذلك المكان، وإلّا لو أنكرنا الروح فإننا لن نستطيع أن نجد إجابة على الأسئلة المذكورة أعلاه، وبتعبير آخر: فلنفترض أننا

جالسون بجانب بحر تتلاطم أمواجه وكلما أردنا أن نسعى لدرك نهاية تلك المياه فإننا لا نستطيع أن نرى إلّا الماء، وأن نشاهد بجانب ذلك البحر جبالًا عظيمة تطاول السماء، ونستطيع أن نشاهد تلك الجبال وحولها غابات واسعة مليئة بالأشجار، ونتمتع بالنظر إلى تلك المناظر الطبيعية الجميلة والجذابة، فإذا قمنا بعد ذلك بإغلاق أعيننا لحظة واحدة فماذا سيحدث؟ نلاحظ أنّ صورة جميع تلك المشاهد من البحار والجبال والغابات والأشجار انطبعت في أذهاننا، ونستطيع أن نراها بنفس ذلك المقياس لا أصغر منه وتوجد في أذهاننا عندها يجب أن نتساءل أين توجد تلك الصور والخرائط في الخلايا الرمادية من دماغنا؟ يعتقد الماديون أنّها آثار فيزياوية وكيمياوية لدماغنا، ولكن هل يمكن قبول أنّ تلك الصور التي تتمتع بتلك الكبر تستطيع أن تحفظ في خلايا دماغنا التي تكون بتلك الصغر والدقّة وتحتفظ فيها دون أن تصغر ذرة واحدة؟ لذا يجب علينا أن نقبل أنّ هناك روحاً عظيمة ما وراء أجسادنا، حيث تتوضع تلك الصور بنفس مقياسها الحقيقي هناك. يعتقد العلماء أنّ خلايا أجسادنا تمرّ في حالة تجديد تدريجي بحيث إنّه تنشأ خلايا جديدة مرّة كل سبع سنوات، بمعنى أنّ الشخص الذي يبلغ من العمر (70) عاماً قد تغيّرت خلايا جسده لعشر مرّات ولكن مع ذلك فإنّ شخصيته لم تتغير، فهل يعني أنّ وحدة شخصية الإنسان وعدم تبدلها هي نتيجة جسدية، لذلك الجسد الذي يتعرض لتغيير مستمر ودائم، أو أنّها نتيجة روحية تشكل حلقة اتصال بين هذه الأجساد؟ ولهذا فإنّه لا شك أنّ الإنسان يمتلك بالإضافة إلى جسد روحاً كذلك.

ص: 157

2. الآيات القرآنية:

اشارة

يتخيل البعض أنّ القرآن العظيم قد تحدث عن الروح قليلًا، في حين أنّه توجد آيات كثيرة من القرآن الكريم تحدثت حول الروح وبحثت فيه حيث نشير إلى أربع مجموعات منها:

أ) الآيات المتعلقة بالشهداء:

هناك آيات في القرآن الكريم تتحدث عن حياة الشهداء في عالم البرزخ، منها الآية الشريفة (169) من سورة آل عمران حيث يقول تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فهل للشهداء حياة جسمية؟ إنّ الجواب على هذا السؤال واضح بأنّ هؤلاء الأعزاء الذين تقطعت أجسادهم وأحياناً لم يبق من أجسادهم إلّا قطعة عظمية صغيرة فهؤلاء ليست لهم حياة جسدية فقط، ولهذا فإنّ المقصود من حياة الشهداء هو حياة الروح، وما يرزقونه عند الله عزّ وجلّ متعلق بأرواحهم ولذلك فإنّه طبقاً للآية الكريمة يوجد روح للإنسان أيضاً.

ب) آيات العذاب حول فرعون وأتباعه:

ص: 158

تتحدث الآية الشريفة (46) من سورة مؤمن (الغافر) حول عذاب فرعون وأتباعه حيث يقول تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ

إنّ العذاب المذكور في الآية أعلاه متعلق بعالم البرزخ حيث تتحدث الآية في نهايتها عن عذابهم يوم القيامة كذلك، ولكن هل تتعذب أجسادهم أو أرواحهم؟ لا شك أنّ أرواحهم تتعذب هناك، لأنّ أجسادهم تتلاشى بعد مدّة قصيرة من موتهم، ولهذا فإنّ هذا دليل على وجود الروح وأنّ أرواح الشهداء تتنعم في عالم البرزخ، في حين أنّ أرواح الكفار الظالمين تكون في عذاب هناك.

ج) آيات قبض الروح:

هناك آيات متعددة في القرآن الكريم تتحدث عن قبض أرواح الناس ومنها الآية (11) من سورة السجدة حيث يقول تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ

عندها نتساءل ما لذي تقبضه ملائكة الموت؟ فهؤلاء الملائكة لا يقبضون أجساد الميتين بل إنهم يقبضون أرواحهم.

د) الآيات المتعلقة بالنوم:

في الآية (42) من سورة الزمر التي تعتبر من الآيات التي تتحدث عن النوم يقول تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرى إِلى أَجَل مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ عند الموت تنفصل أروح الإنسان عن جسده بشكل كامل، أمّا أثناء النوم فإنّ روحه تنفصل عن جسده بشكل ناقص، ولهذا فإنّ النوم دليل آخر على وجود الروح وبالتالي فإنّه توجد آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على وجود الروح.

ص: 159

3. الارتباط بالأرواح في كلمات الإمام علي عليه السلام:

بناءً على الروية المذكورة في نهج البلاغة، فإنّه أثناء رجوعه عليه السلاممن حرب صفين توقف خلف بوابة الكوفة (1)، عند مقبرة المدينة، وأراد عليه السلامأن يعطي درساً لأصحابه وأتباعه الذين رجعوا من معركة صفين المليئة بالأحداث، لذا خاطب المدفونين تحت تراب تلك المقبرة والذين رحلوا نحو ذلك العالم وقال لهم:

يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالَمحَالِ الْمُقْفِرَةِ، وَالْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ؛ يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لَاحِقٌ

. وبعد أنّ بيَّن عليه السلامأحوال هؤلاء الموتى في القبر، وذكر حتمية الموت وخاطب الأموات حدثهم بما جرى بعد موتهم في ثلاث عبارات:

أَمَّا الدُّور فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الْازْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، وَأَمَّا الْامْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ. هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا


1- في العصور الغابرة كان ينبى حول المدن حائط وسور كبير، ويفتحون بوابات لدخول الأفراد وخروجهم من إلى المدينة، حتى يأمن أهل تلك المدن من شرّ السراق واللصوص والأعداء، وكانت المقابر توضع عادة خارج تلك الأسوار.

ص: 160

ثم نقل إليهم أخبار الدنيا قائلًا:

فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟ ثم التفت إِلى أَصحابه فقال: أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَاخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى

(1).

وحين يقول علي عليه السلام: أمّا لو أذن لهم في الكلام، فإن ذلك دليل على وجود الأرواح وأنّهم يستطيعون أن يتواجدوا معنا، ويتكلموا معنا ولكن ذلك يحتاج إلى إذن إلهي.

أيّها القراء الأعزاء! عليكم أن تفكروا من الآن في زادكم للآخرة، وتعوّضوا ما فات منكم، إذ في غمرة قيام الساعة لن يفكر أحد بأحد آخر، بل إنّه يتخلى عن أحبَّ الناس إليه ولا يفكر إلّا في إنقاذ نفسه، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإعداد ذلك الزاد لتلك اللحظات الموحشة.


1- نهج البلاغة، الكلمات القصار 130.

ص: 161

المدّعون الكاذبون:

كما ذكرنا سابقاً فإنّه توجد أدلة متعددة على وجود الروح وإمكان الاتصال معها، ولكن ذلك لا يعني أن نقبل كل ادعاء حول الارتباط بالأرواح إذا صدر من أي شخص.

لأنّ هناك الكثير من المدّعين الكاذبين الذين يسعون وراء أغراضهم الخاصة ويجب أن نحذر منهم، وقد يقوم هؤلاء المدّعون أحياناً بواسطة طاولة مستديرة خاصة بهم بخداع الآخرين، وأحياناً يقومون بتلقين طفل غير بالغ ليقول أشياء ويقوم بأفعال بعد أن يحولوه إلى وسيلتهم للخداع، وأحياناً يلجؤون إلى أساليب أخرى للخدع أشرنا إليها في كتابنا

الاتصال بالأرواح

. وقد رأيت أحد هؤلاء المدعين الكاذبين الذين فاقت شهرتهم الآفاق في إحدى

القرى، وقد طلبت منه أن يُحَضِّر لي روح العلّامة الطباطبائي رحمة الله عليه وبعد مدّة من تلفظه ببعض الكلمات غير المفهومة ادّعى أن روح المرحوم العلّامة حاضرة بيننا، وتحمل رسالة إلينا فقلت له: ما رسالته؟

فقال: إنّه يقول قال تعالى:

قولوا لا إله ألّا الله تفلحوا

. فقلت له: ليس هذا الكلام من الله أو آية قرآنية، بل إنّه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وكلام له، فكيف من الممكن لروح العلّامة الطباطبائي الذي يعدّ من كبار مفسِّري القرآن الكريم وألّف في ذلك تفسير الميزان الذي يعدّ في حد ذاته كتاباً قل نظيره في مجاله، كيف يمكن له ألَّا يميز بين حديث وآية قرآنية!

ص: 162

وكذلك نقل عن المرحوم فلسفي ذلك الخطيب الكبير النادر أنّه أراد من أحد هؤلاء المدّعين الكاذبين أن يحضر له روح المرحوم الشاعر سعدي، وبعد أن ادّعى ذلك الشخص أنّ روح سعدي الشاعر حاضرة في ذلك المكان، قال له: لقد كان ذلك الشاعر سعدي متبحراً في قرض الشعر في اللغتين العربية والفارسية، فلهذا اطلب من الشاعر سعدي أن يقول بيتاً معروفاً عنه باللغة العربية! عندما أصبح المدعّي على شرف الفضيحة قال: إنّ الشاعر سعدي غضب من طلبك هذا وترك المجلس!

في النتيجة، فإنّ الارتباط بالأرواح ممكن، ولكن يجب الحذر في هذا المجال من المدّعين الكاذبين.

10- المحيض

اشارة

إنّ السؤال الآخر من الأسئلة القرآنية التي سنبحث عنها يتحدث عن العادة الشهرية عند النساء، يقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (1).


1- سورة البقرة، الآية 222.

ص: 163

سبب النزول:

تطمث النساء كل شهر مدّة ثلاثة أيّام على الأقل أو عشرة أيّام على الأكثر والعادة الشهرية عندهن عبارة عن دم له أوصاف خاصة وردت في الكتب الفقهية تخرج من رحم المرأة وتطلق على المرأة في هذه الحالة (الحائض) ويسمى ذلك الدم (الحيض) وفي الشريعة الحالية لليهود والنصارى أحكام متناقضة حول مقاربة الرجال لهؤلاء النساء تلك الحالة تخلق إشارات استفهام لكل شخص.

يقول جمع من اليهود: (تحرم معاشرة الرجال لهؤلاء النساء مطلقاً، حتى ولو بشكل تناول الطعام معهن في سفرة واحدة، أو العيش معهن في غرفة واحدة، إذ إنّهم

يذكرون مثلًا: يجب على الرجل ألّا يجلس في المكان الذي تجلس فيه المرأة الحائض، فإذا قام الرجل بذلك، فيجب عليه أن يغسل لباسه وإلّا فإنّه نجس، وكذلك فإن نام في فراشها فيجب عليه أن يغسل لباسه وجسده).

وعليه ينبغي اعتبار المرأة في هذه المدة كائناً نجساً يجب الاجتناب عنه.

في مقابل هذه المجموعة هناك المسيحيون الذين يقولون: (لا فرق بين المرأة في حال الحيض، وغير هذه الحالة، ولا مانع في الحالتين من المعاشرة معها وحتى مقاربتها جنسياً!).

وقد كان مشركوا العرب لا سيما من كان يعيش في المدينة أقرب لليهود، ولذلك كانوايتعاملون مع النساء الحائضات كاليهود، فينفصلون عنهن أثناء عادتهن الشهرية، وهذا الاختلاف في التشريع، والإفراط والتفريط غير القابل للتجاوز، أدى ببعض المسلمين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذا الأمر فنزلت هذه الآية جواباً لهم (1).


1- فقه القرآن، للقطب الراوندي، ج 1، ص 51، (مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1405 هجري قمري)؛ وتفسير ابن كثير، ج 1، ص 438، ذيل الآية؛ تفسير الآلوسي، ج 2، ص 120، ذيل الآية؛ سنن البيهقي، ج 2، ص 12، ح 1531.

ص: 164

تفسير إجمالي للآية:

نواجه في هذه الآية بسؤال حول العادة الشهرية للنساء حيث يقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ

معنى الحيض:

المحيض مصدر ميمي بمعنى العادة الشهرية وقد جاء في معجم مقاييس اللغة

حول هذه الكلمة أنّها في الأصل بمعنى خروج الماء الأحمر من شجرة اسمها سَمُرة، ثم أطلقت على العادة الشهرية للنساء، ولكن ورد في تفسير الفخر الرازي ما يلي:

الحيض في الأصل بمعنى (السيل) ولهذا عندما يجري (السيل) يقال حاض السيل، وسمي الحوض بهذا الاسم لذلك حيث تجري الماء نحوه.

أمّا الراغب في (مفرداته) فيستفاد من كلامه عكس ما سبق، لأنّه يعتقد أنّ هذه الكلمة في الأصل بمعنى دم العادة الشهرية نفسه، ومن ثم أطلق على معان أخرى.

ص: 165

فلسفة حرمة مقاربة المرأة في عادتها الشهرية:

على أي حال فالمقصود من ذلك في محل بحثنا، هو ذلك الدم الذي وصفه القرآن الكريم بأنّه

أذى

. وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة توضح فلسفة حكم اجتناب المقاربة الجنسية للنساء الحائضات، لأنّ المقاربة في هذه الحالة، بالإضافة إلى أنها مقززة فإنّ لها أضراراً كثيرة أثبتها الطب في هذه الأيّام منها:

احتمال عقم الرجل والمرأة، خلق بيئة مناسبة لنمو الجراثيم الناقلة للأمراض الجنسية مثل السيفلس والزهري وغيرها، وكذلك التهاب الأعضاء التناسلية للمرأة ودخول الدم الملوث إلى العضو التناسلي للرجل وغير ذلك ممّا ذكرته الكتب الطبية، لذا فقد منع الأطباء المقاربة الجنسية مع المرأة التي تمر في هذه المرحلة.

ص: 166

كيفية تشكل دم الطمث:

إنّ دم الطمث ناتج عن احتقان أوعية الرحم، ثم تخريب الطبقة المخاطية لبطانة الرحم وخروج الدم المتواجد في الرحم، ويكون خروج الدم في البداية غير منتظم وعديم اللون، ولكنه يتحول بسرعة إلى اللون الأحمر ويصبح منتظماً، وفي النهاية يصبح عديم اللون غير منتظم من جديد (1).

إنّ دم الطمث في الأصل هو الدم الذي يتجمع شهرياً في الأوعية الدموية الرحمية لتغذية الجنين المحتمل كما نعلم فإنّ الرحم تطلق في كل شهر بويضة، وبنفس الوقت فإنّ الأوعية الدموية تتهيأ لتغذية النطفة بامتلائها بالدم. وعند دخول البويضة إلى الرحم فإنّها إذا ما وجدت النطاف فيها فإنّ إلقاح النطفة والبويضة تشكلان الجنين والدم الموجود في الأوعية الرحمية تبدأ بتغذية الجنين المتشكل.

وفي غير هذه الحالة (أي عدم حصول اللقاح) فإنّ البطانة الرحمية تتخرب وتنثقب الأوعية الدموية ويخرج الدم المتواجد فيها والذي يسمى دم الطمث، ومن هنا ينتج لدينا دليل آخر لمنع وتجنب الجماع في حال الطمث لأنّ الرحم حين إفراغها من الدم المتواجد لا يكون مهيئاً لاستقبال النطفة، بل ينتهي في حال حصول الجماع إلى أضرار.

وإنّ عبارة (يطهرن) بناء على كثير من المفسّرين بمعنى طهارة النساء من دم الطمث، وأمّا عبارة (فإذا تطهرن) فقد فسّره كثير منهم بمعنى الغسل، وبناء عليه فإنّه طبقاً للجملة الأولى فإنّه يجوز أثناء الطهارة من الدم المقاربة الجنسية وإن لم يتمّ الغسل، وطبقاً للجملة الثانية فإنّه لا يجوز ذلك حتى يتم الغسل، وبناء على ذلك، فإنّ الآية لا تخلو من الإبهام، ولكن بملاحظة أنّ الجملة الثانية تفسيرية للجملة الأولى بالتالي فإنّه معطوف بفاء التعريف، وبالتالي نتوصل إلى نتيجة: أنّ معنى (تطهرن) يأتي بمعنى التطهّر من الدم، وبناء على ذلك فإنّه يجوز المقاربة الجنسية بالتطهّر من العادة، لاسيما أنّه لم يتم التطرق في صدر الآية عن وجوب الغسل، وهذا القول هو ما أفتى به كبار الفقهاء في الفقه، بأنّه تجوز المقاربة الجنسية بعد التطهّر من الدم حتى قبل الغسل، ولكن من الأفضل بلا شك أن تتم بعد الغسل.

أمّا جملة (من حيث أمركم الله) يمكن أن تكون تأكيداً للجملة التي سبقتها، أي إنّه لا تتمّ المقاربة الجنسية إلّا في حالة تطهّر النساء لا غيرها من الحالات.

ومن الممكن أن نستفيد مفهوماً أوسع وأعمّ من ذلك، أي يجب أن تكون المقاربة

الجنسية بعد الطهارة في إطار تعاليم الله عزّوجلّ، وهذا الأمر يمكن أن يكون أمراً تكوينياً من الله أو أمراً تشريعياً، لأنّ الله عزّوجلّ جعل جاذبة خاصة بين الجنسين المختلفين لغاية بقاء نوع الإنسان، ولذلك جعل لذة خاصة لكلى هما في المقاربة الجنسية.

ولكن من المسلّم أنّ الهدف النهائي هو بقاء نسل الإنسان، وما هذه الجاذبة واللذّة إلّا مقدمة لذلك وبناء على هذا الأصل يجب أن تكون اللذة الجنسية في إطار وفي مسير بقاء النسل، ولهذا اعتبر الاستمناء واللواط وأمثالهما نوعاً من الانحراف عن هذا الأمر الإلهي، وهي ممنوعة.

ومن الممكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي، أي بعد تطهر النساء من العادة الشهرية، يجب الأخذ بعين الاعتبار الجهات المحللة والمحرمة في الحكم الشرعي.

وقد قال البعض أيضاً: إنّ مفهوم هذه الجملة منع المقاربة الجنسية بين الأزواج من غير الطريق المعتاد، ولكن بالنظر إلى أنّه لم يتطرق في الآيات السابقة إلى هذا الأمر، فإنّ هذا التفسير يعتبر مناسباً (2).


1- مقتبس من إعجاز القرآن، ص 55- 65.
2- يجب أن نتنبه إلى أنّ لفظة (من حيث) هو ظرف المكان كما أنّه يعتبر أيضاً ظرف زمان، وهنا يمكن الإشارة إلى زمن جواز المقاربة الجنسية أي زمن الطهارة.

ص: 167

واجبات النساء أثناء العادة الشهرية من حيث المنظور الإسلامي:

كما ذكر سابقاً، فإنّ الأقوام السابقة كانت لهم عقائد مختلفة حول النساء أثناء عادتهن الشهرية حيث تشدّد اليهود بشكل غير عادي في ذلك فكانوا ينفصلون عن نسائهم في تلك الأيّام بشكل كامل، من حيث الأكل والشرب والجلوس والنوم معهن، ويلاحظ في التوراة الحالية أحكام مشددة في هذا المجال (1).

وعلى العكس من هؤلاء، فلم يكن المسيحيون يشترطون أي قيد أو منع في المقاربة مع النساء في أيّام حيضهنّ، ولم يكن يوجد لدى العرب من عبدة الأصنام أي قانون أو تقليد خاص في هذا المجال، ولكن سكان المدينة وأطرافها كانوا قد اقتبسوا في هذا المجال شيئاً من آداب اليهود، إذ كانوا يتشددون في معاشرة نسائهم أثناء حيضهن في حين لم يكن سائر العرب كذلك، بل لعلهم كانوا يستلذون بالمقاربة الجنسية في هذه الحالة، ويعتقدون أنّه إذا جاءهم ولد نتيجة هذه المقاربة، فإنّه سوف يكون سفاكاً للدماء وهذه من الصفات المطلوبة عند أعراب البادية (2).


1- في الباب 15 من السفر (لاويان) في التوراة نقرأ ما يلي: إذا حاضت المرأة فإنّها تُفصل حتى سبعة أيّام، وفي لمسها يصبح نجساً حتى العشاء، وكل مكان تنام عليه أثناء فترة فصلها يصبح نجساً، ويتنجس كل مكان تقعد عليه، وكل مكان من يلمس فراشها يجب أن يغسل لباسه وجسده بالماء ...) وأحكام أخرى من هذا القبيل.
2- اقتباس من تفسير الميزان، ج 2، ص 208، ذيل الآية المذكورة، وفي كتاب أنيس الأعلام، ج 2، ص 106- 107، كذلك فيه شرح مفصل مع ذكر المصادر في هذه الحالة.

ص: 168

الجمع بين الطهارة والتوبة

قد يكون ذكر الطهارة والتوبة بجانب بعضها بعضاً، إشارة إلى أنّ الطهارة متعلقة بالطهارة الظاهرية، أمّا التوبة فإشارة إلى الطهارة الباطنية.

كما أنّ هناك احتمالًا آخر، بأنّ الطهارة في هذا المورد بمعنى عدم ارتكاب المعاصي والتلوث بها، أي أنّ الله عزّ وجلّ يحب الذين لا يرتكبون المعاصي والذنوب و يحب الذين يتوبون بعد ارتكاب المعاصي أيضاً و يلحقون بزمرة (الطاهرين).

ويمكن أن تكون الإشارة إلى موضوع التوبة في هذا المورد ناظرة إلى أنّ البعض لم يكونوا يستطيعون أن يتمالكوا أنفسهم تحت تأثير ضغط الغريزة الجنسية وكانوا يرتكبون المعاصي مخالفين أمر الله عزّ وجلّ، وبعد ذلك يندمون على ما فعلوا ويستاؤون من ذلك، ولهذا فإنّ الله عزّ وجلّ لكي يجعل طريق العودة إليهم مفتوحاً، ولا يروا هذا الطريق مسدوداً ولا ييأسوا من رحمة الله عزّ وجلّ، فإنّه قد دلهّم على طريق التوبة (1).


1- حول حقيقة التوبة وشروطها ذكرنا ذلك تفصيلًا في التفسير الأمثل، ج 3، ذيل الآية 17 من سورة النساء، والجزء 9، ذيل الآية 5 من سورة النور.

ص: 169

11- الجبال

اشارة

إنّ الآيات الشريفة من 105 حتى 112 من سورة طه هو الموضوع الحادي عشر من الأسئلة القرآنية التي نبحث فيها حيث يقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً* يَوْمَئِذ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً* يَوْمَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً* وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً.

الأحداث المهولة لقيام الساعة:

بما أنّ الآيات المذكورة سابقاً تتحدث عن الأحداث المتعلقة بنهاية الدنيا وقيام الساعة، فإنّ الآيات التي نبحث عنها كذلك تتابع البحث في هذا الموضوع.

ص: 170

ويفهم من الآية الأولى أنّ الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله حول مصير الجبال عند نهاية الدنيا، إذ لعلهم لم يكونوا يصدقون أن تنهار موجودات عظيمة لها جذور في أعماق الأرض ومرتفعة إلى السماء أو تكون قابلة للتزلزل، وإذا حل بها ذلك فما هي تلك الريح العظيمة أو العاصفة الهوجاء أو الطوافان الكبير الذي يقوم بذلك؟

لذا يقول تعالى: ويسألونك عن الجبال

فيقول في الجواب: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ومن مجموع الآيات القرآنية حول مصير الجبال نستفيد ما يلي: على أعتاب القيامة تمر الجبال بمراحل مختلفة هي:

الاولى: مرحلة الرجفة: حيث يقول تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبالُ (1).

وفي المرحلة الثانية: مرحلة السير والحركة: يقو ل تعالى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (2).

في المرحلة الثالثة: مرحلة التلاشي والتحول إلى ركام من الرمل: حيث يقول تعالى: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (3).

وفي المرحلة الأخيرة: تقوم الرياح والعواصف بتحريكها من أماكنها ونشرها في السماء كالعهن المنفوش، حيث يقول تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (4).

ثم تذكر الآية بعد ذلك، بأنّ الجبال بعد أن تتلاشى وتذرو ذراتها في الفضاء فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (5) أي: فإنّ سطح الأرض تتحول إلى أرض مستوية بلا ماء أو نبات، بحيث لا يوجد فيها أي اعوجاج أو تضاريس يمكن ملاحظتها ويقول تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (6) وفي هذه الأثناء يدعو داعي الله عزّ وجلّ الناس إلى الحياة والجمع في المحشر والحساب، فيجيبون هذا الداعي بدون أي تباطؤ أو تقصير ويتبعونه، يقول تعالى واصفاً ذلك: يَوْمَئِذ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ فهل هذا الداعي هو إسرافيل أو ملاك آخر من ملائكة الله عزّ وجل؟

لم يحدد ذلك الملاك في القرآن بشكل دقيق، ولكن بغضِّ النظر عمَّن يكون، فإن أمره نافذ بحيث لا يستطيع أحد مخالفته.

وإنّ جملة (لا عوجاً له) من الممكن أن تكون وصفاً لدعوة هذا الداعي أو أن تكون وصفاً لاتباع من سمع نداء هذا الداعي أو وصفاً لكليهما.

ومن اللطيف أنّه كما أنّ سطح الأرض تصبح مستوية بدون أقل اعوجاج أو تضريس، فإنّ الدعوة الإلهيّة تكون مستقيمة وواضحة بدون أي انحراف، واتباع هذا النداء الإلهي يكون كذلك بحيث لا يجد أي انحراف أو طريقاً له.

عندها يحدث ما يلي: يقول تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (7).

وإنّ هذا الصمت ليس إلّا نتيجة سيطرة العظمة الإلهيّة على مشهد الحشر، حيث يخضع لها الجميع، أو يكون السبب الخوف من الحساب والكتاب ونتيجة الأعمال أو يكون سبب هذا الصمت المطبق كليهما معاً.

ومن هنا يمكن لبعض الأشخاص أن يصابوا بهذا الخطأ المتمثل بما يلي:

هل من الممكن للأشخاص الذين ارتكبوا المعاصي أن ينالوا الشفاعة من قبل شفعائهم عند ذلك يأتي الجواب مستقيماً بقوله تعالى: يَوْمَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا وفي ذلك إشارة إلى أنّ الشفاعة لا تأتي عبثاً بل بناء على برنامج دقيق يشمل الشفيع والمشفع له، إذ لا معنى للشفاعة إذا لم يكن البعض أهلًا لتلك الشفاعة.

و الحقيقة تكون كما يلي:

إنّ هناك مجموعة من الناس عندهم تصورات خاطئة عن الشفاعة، ويشوهونها بما يجري في الدنيا من المحسوبيات، في حين أنّ الشفاعة في المنطق الإسلامي مدرسة عليا في التربية، هي تربية لهؤلاء الذين يطوون طريق الحق بالسعي والعمل والجد، وفي سعيهم هذا قد يصابون ببعض الزلّات والنقائص التي يمكن أن تؤدي إلى إصابة قلوبهم بغبار اليأس.


1- سورة المزمل، الآية 14.
2- سورة الطور، الآية 10.
3- سورة المزمل، الآية 14.
4- سورة القارعة، الآية 5.
5- القاع وهي الأرض الجرداء المستوية، وفسّرها البعض بالمحل الذي يتجمع فيه الماء، وأمّا الصفصف، بمعنى الأرض الجرداء، ويستفاد من هذين الوصفين ما يلي: في ذلك اليوم تُمحى الجبال والنبات جميعاً من سطح الأرض وتبقى الأرض جرداء.
6- العوج، بمعنى الانحراف والتقعر، والأمت، بمعنى الأرض المرتفعة والتلة، بناءً على هذه الآية فإنّه يصبح المعنى بمجموعه كما يلي: في ذلك اليوم لا يُرى في الأرض أي تضريس مقعّر أو مسطح.
7- الهمس، على وزن اللمس ويقول الراغب في مفرداته: إنّه الصوت الخفي والخافت، وفسّره البعض بصوت الأقدام العارية الخفية، وفسّره البعض الآخر بحركة الشفتين دون أن يُسمع منها صوت، حيث ليس بينها اختلاف كثير.

ص: 171

عندها تأتي الشفاعة محركة لهم لتقول لهم: لا تيأسوا واستمروا في طريق الحق، ولا تتخلّوا عن سعيكم وجهادكم في هذا الطريق، وإذا بدرت منكم زلّة ما، فهناك شفعاء بإذن الله عزّ وجلّ يقومون بالشفاعة لكم من قبل الله الذي تشمل رحمته كافة الناس.

فالشفاعة ليست دعوة إلى الكسل أو هروباً من تحمل المسؤولية أو ضوءاً أخضر لارتكاب المعاصي والذنوب، وأنّ الشفاعة هي دعوة للاستقامة في طريق الحق وتقليل المعاصي حتى الإمكان، وإن كان البحث في الشفاعة بحاجة إلى طرح مواضيع كثيرة لا مجال لبحثها في هذا المجال، ولكنني أوجه انتباههم إلى قصة لطيفة في هذا المجال، حتى يعلم أنّ الشفاعة كذلك لا تتم عبثاً (1).

نقل أحد علماء طهران المحترمين (رحمة الله عليه) إنّه كان هناك شاعر يدعى (حاجب) مبتلى ببعض الأفكار الخاطئة العامة حول الشفاعة فقرض مبيتاً من الشعر يقول فيها:

بما معناه: إنّي لا أخاف أن ارتكب أي شي ء من المعاصي ما دمت أضمن أنّ المحاسبة يوم الحشر تكون بيد علي عليه السلام! وفي الليل رأى علياً عليه السلامفي حال من الغضب يقول له: لم تقل شعراً جيداً، فقال له الشاعر: ما كان عليّ أن أقول؟ فقال: أصلح شعرك وقل: إذا كان الأمر بيد علي عليه السلاميوم الحشر فيجب عَلَيّ أن أقلِّل ما

استطعت من ذنوبي حتى لا أخجله!

وفي الآية التالية يضيف الله عزّ وجلّ: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، وبهذا الترتيب فإن إحاطة علم الله عزّ وجلّ يكون بأعمالهم وجزاء تلك الأعمال، وهذان الأمران في الحقيقة ركنان أساسيان للحكم الكامل والعادل حيث يجب على القاضي أن يكون على دراية كاملة عن الأحداث بالإضافة إلى أحكامها وعقوباتها.

وفي الآية التالية يقول تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ و (عَنَتَ) من مادة (عنو) بمعنى الخضوع والذلة لا يطلق على الأسير لفظ (العاني) لأنه في أسره خاضع وذليل.

ونلاحظ أنّه تعالى قد نسب الخضوع للوجوه، لأن جميع آثار الظواهر النفسية في الإنسان أول ما تظهر في صفحة وجهه منها الخضوع.

وقد ذكر بعض المفسرين احتمالًا آخر بأنّ الوجوه في هذه الآية بمعنى الرؤوساء، إذ إنّ جميع الخلق عند الله عزّ وجلّ في ذلك اليوم يكونون أذلاء وخاضعين ولكن التفسير الأول هو الأنسب برأينا.

وإنّ اختيار صفة (الحي والقيوم) من بين صفات الله عزّ وجلّ ثمّ بسبب التناسب بين هاتين الصفتين ويوم القيامة حيث يكون يوم الحياة والقيام لجميع الناس.

وفي ختام الآية يضيف تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً).

وكأن الظلم حمل ثقيل عظيم على ظهر الإنسان تثقل كاهله وتمنعه من التقدم نحو النعم الإلهيّة الخالدة، وإنّ الظالمين بسبب ظلمهم أنفسهم أو الآخرين حينما يرون بأعينهم ذلك اليوم الذي قد خفت فيه كواهل البعض من الذنوب يمضون إلى الجنّة، أمّا من يدفعون إلى جهنم تحت تأثير ثقل ظلمهم فإنّهم يلقون نظرة حسرة إلى هؤلاء! وبما أنّ الأسلوب القرآني غالباً ما يتخذ الأسلوب التطبيقي في طرح المسائل، فإنّه يذكر حال المؤمنين بعد ذكر مصير الظالمين والمجرمين في ذلك اليوم

حيث يقول: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (2).

وإنّ تعبير هذه الآية بالقول (من الصالحات إشارة إلى أنّهم لم يستطيعوا أن يقوموا بجميع الأعمال الصالحة حيث قاموا بجزء منها على الأقل لأنّ الإيمان بدون عمل صالح كشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة التي لا أصل لها، إذ من الممكن أن تبقى عدّة أيّام وتستمر ولكنها في النهاية تجفّ ولهذا فإنّ الله عزّ وجلّ في هذه الآية ذكر العمل الصالح مقيداً بقوله (وهو مؤمن).

ومن المعلوم أنّ العمل الصالح لا يمكن أن يوجد بلا إيمان، وإذا رأينا أحياناً بعض الأفراد الذين لا إيمان لهم يقومون بأعمال حسنة فإنّ هذا الأمر بلا شك ضعيف ومحدود واستثنائي، وبتعبير آخر، فإنّ العمل الصالح إذا أُريد له أن يستمر ويدوم متجذراً ومتعمقاً، فيجب أن يكون مليئاً بالعقيدة السليمة والاعتقاد الصحيح.


1- للبحث أكثر في الموضوعات المتعلقة بالشفاعة ذكرناها في التفسير الأمثل، ج 1، ذيل الآيات 47 و 48 من سورة البقرة، وج 2، ذيل الآية 255 من سورة البقرة.
2- الهضم في اللغة، بمعنى النقص، وعندما يطلق على هضم الطعام في البدن كذلك فلأنّه يقل ظاهرياً ويبقى منه الثفالة.

ص: 172

ما الفرق بين الظلم والهضم؟

لقد قرأنا في آخر جملة من الآيات التي بحثنا عنها أنّ المؤمنين الصالحين لا يخافون ظلماً ولا هضماً، وذكر بعض المفسرين أنّ في (الظلم) إشارة إلى عدم خوف هؤلاء عندما تقام المحكمة الإلهيّة العادلة، أن يحيق بهم ظلماً أو يؤاخذوا بمعاص وذنوب لم يرتكبوها، أمّا في (الهضم) إشارة إلى أنّهم لا يخافون من نقصان ثوابهم، لأنّهم يعلمون أن جزاءهم سوف يصلهم بدون نقص.

وقد ذكر البعض الآخر احتمالًا آخر:

الأول: إشارة إلى أنّهم لا يخشون ولا يخافون من ذهاب كل حسناتهم، أمّا الثاني: فإشارة إلى أنّه لا يسمحون للخوف أن يأخذ طريقه إلى قلوبهم حتى من نقص مقدار قليل من تلك الحسنات، لأنّ الحساب الإلهي دقيق.

كما يوجد احتمال آخر وهو أنّ هؤلاء المؤمنين الصالحين يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا زلات، وهم على يقين أنّه لا يكتب في صفحة أعمالهم أكثر من تلك الزلات التي ارتكبوها، وإنّ هذه الزلات لا تقللّ من ثواب أعمالهم الصالحة شيئاً، ولا يوجد تناف بين التفاسير المذكورة أعلاه ومن الممكن أن تكون الجملة المذكورة أعلاه في الآية القرآنية إشارة إلى جميع تلك المعاني.

ص: 173

مراحل القيامة:

في الآيات المذكورة أعلاه إشارة إلى سلسلة الحوادث التي تحدث أعقاب يوم القيامة وبعد قيامها وهي:

1. إحياء الموتى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.

2. حشر المجرمين والعاصين: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ

3. تلاشي الجبال وتفتتها واستواء سطح الأرض: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً.

4. استجابة الجميع لأمر الدعوة الإلهيّة وسيادة الصمت على الجميع: يَوْمَئِذ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ

5. في ذلك اليوم لا تأثير لأية شفاعة بدون إذن الله: يَوْمَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ.

6. يهيئ الله عزّ وجلّ جميع خلقه للحساب بعلمه اللامحدود: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

7. خضوع الجميع لحكمه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ

8. يأس الظالمين: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً.

9. تأمل المؤمنين بلطف الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ

***

ص: 174

12- ذو القرنين

اشارة

إنّ آخر آية من القرآن الكريم تبدأ بقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ تتحدث عن ذي القرنين، حيث يقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ء سَبَباً* فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْن حَمِئَة وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً* قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْم لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً* كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (1).


1- سورة الكهف، الآيات 83 إلى 91.

ص: 175

قصة ذي القرنين المدهشة:

ذكرنا عند بحثنا عن الروح أنّه أرادت جماعة من قريش اختبار رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد استشارتهم يهود المدينة، طرحوا عليه ثلاثة أسئلة:

الأولى: عن قصة أصحاب الكهف.

الثانية: عن الروح.

الثالثة: عن قصة ذي القرنين.

حيث ورد الجواب عن الروح في سورة الإسراء، وجاء الجواب عن السؤالين الآخرين في سورة الكهف، وقد حان الدور الآن إلى قصة ذي القرنين وهي كما يلي:

ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص لها قاسم مشترك وإن كانت مختلفة في الظاهر مع بعضها، هي قصص أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وتحتوي على أمور تنقلنا من حدود حياتنا العادية إلى آفاق أرحب، وتشير إلينا أنّ العالم وحقائقه لا تنحصر بما نراه واعتدنا عليه.

وقصّة ذي القرنين تتمحور حول شخص شغل أفكار الفلاسفة والباحثين منذ أقدم العصور إلى الآن وبذلوا جهوداً كبيرة للتعرف عليه.

وسنقوم أولًا بتفسير الآيات المتعلقة به وهي في مجموعها ست عشرة آية، وبغضِّ النظر عن الجوانب التاريخية فهي تمثّل بحدِّ ذاتها دروساً مليئة بالعبر.

وبعد ذلك نتعرف على بطل هذه القصّة مستعينين بالقرائن الموجودة في هذه الآيات بالإضافة إلى الأحاديث وأقوال المؤرخين.

ص: 176

بتعبير آخر: فإننا سوف نتحدث في البداية عن شخصيته، ومن ثم عن شخصه، وما هو مهمّ من المنظار القرآني هو الأوّل بلا ريب.

تقول الآية الأولى حول قصّته: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً.

إنّ استعماله تعالى قول (سأتلو) فيه تنبيه على النقاط التالية:

إنّ السين تستعمل عادة للمستقبل القريب، في حين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يتحدّث عن ذي القرنين فوراً وبدون تأخير، ومن الممكن أن يكون استعمال هذا الأسلوب رعاية لأدب الحديث، ذلك الأدب المتميز بالتروي، ومفهومه استيعاب كلام الله ومن ثم شرحه للناس.

على أي حال، فإنّ صدر هذه الآية تدلّ على أنّ قصّة ذي القرنين كانت مطروحة

بين الناس سابقاً، وكان يثار حولها الكثير من الاختلافات واللغط والإبهامات، لذا توجّه الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليطلبوا منه توضيحات لازمة في هذا المجال، ويضيف تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ء سَبَباً.

حاول بعض المفسّرين أن يحصروا مفهوم (السبب) في الآية بمعنى خاص، والأصل في معنى (السبب) أنّه يطلق على الحبل الذي يستعان به لتسلق أشجار النخيل ومن ثم أطلق على كل وسيلة، إلّا أنّ من الواضح أنّ الآية مطلقة بشكل كامل ولها مفهوم واسع تدل على أنّ الله عزّ وجلّ جعل بتصرف ذي القرنين أسباب الوصول إلى أي أمر، مثل العقل والدراية الكافية والإدارة السليمة والقوّة والقدرة والجيش والقوى البشرية والإمكانات المادية، أي: إنّ الله عزّ وجلّ قد جعل في تصرفه من الوسائل المعنوية والمادية ما تعينه في تقدّمه وتحقيق أهدافه.

وتذكر الآيات: فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْن حَمِئَة (1) وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (2) أراد بعض المفسرين مستفيدين من قوله تعالى: (قلنا) أن ينسبوا إلى ذي القرنين النبوّة، ولكن يمكن أن يحتمل في هذا القول شي ء آخر بأن يكون المقصود من هذه الجملة هو الإلهام القلبي الذي يمكن أن يوجد في غير الأنبياء، مع أنّه لا يمكن إنكار أنّ هذا التعبير يوحي بالنبوّة أكثر.

ثم تضيف الآيات قائلةً: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (3) إذ إنّ الظالمين ينالون عقابهم في الدنيا وفي الآخرة وتستمر الآيات بقوله تعالى: مِنْ أَمْرِنا يُسْراً حيث سنعامله بأسلوب حسن، ونخفّف عنه الأعباء

الثقيلة ونمتنع عن جباية الخراج والضرائب المرهقة منه.

وكأنّ هدف ذي القرنين من هذا الكلام إشارة إلى أنّ الناس ينقسمون إلى مجموعتين مقابل الدعوة إلى التوحيد والإيمان ومحاربة الظلم والشرك والفساد وهما:

الأولى: من يقبلون برنامجي الإلهي البنّاء، وسوف ينالون بالتأكيد جزاء حسناً ويعيشون في أمن وأمان.

أما الثانية: من يقفون أمام دعوتي ويتخذون مواقف عدائية تجاهها ويستمرون في ظلمهم وفسادهم وسوف يتلقون العقاب.

ويعلم من المقابلة من قوله: مَنْ ظَلَمَ وقوله: مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أنّ الظلم في هذه الآية بمعنى الشرك والعمل غير الصالح، والتي تعتبر من الثمار المرة لشجرة الشرك.

واستمر ذو القرنين في سفره إلى الغرب، ثم عزم على التوجه إلى الشرق، بشكل يعبر عنه القرآن الكريم كما يلي: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْم لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً وقد كان هؤلاء القوم في مرحلة بدائية من الحياة الإنسانية يعيشون عراة أو شبه عراة لا تغطّي أجسادهم إلّا ما يكفيهم قليلًا للستر من الشمس، واحتمل بعض المفسّرين أنّهم كانوا يفتقرون إلى المآوي التي تقيهم من الشمس (4).


1- وهي في الأصل بمعنى الطين الأسود العفن، وهذا يدلّ على أنّ الأرض التي وصلها ذوالقرنين كانت مليئة بهذا النوع من الطين، بحيث كان ذوالقرنين يحس أثناء غروب الشمس أنّها تغرق فيها، كما أنّ جميع المسافرين عبر البحر والمقيمين في الساحل يحسّون مثل ذلك بأنّ الشمس تغرب في البحر أو تطلع منه.
2- يمكن أن تكون جملة إمّا أن تعذب ... استفهامية، وإن كانت في الظاهر خبرية.
3- نكر، من مادة منكر بمعنى غير المعروف أي عذاب غير معروف لا يمكن تصديقه.
4- وفي بعض الروايات الواردة، عن أهل البيت عليهم السلام حيث فسّروا هؤلاء بالتفسير الأوّل، كما فسّروا بالتفسير الثاني مع أنّه لا منافاة بين التفسيرين، راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 306.

ص: 177

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة ذكره المفسّرون وهو أنّ أرضهم التي كانوا يعيشون فيها كانت صحراء قاحلة خالية من الجبال والأشجار والمآوي، لم يكن فيها ما يقيهم حرّ الشمس أو توفّر لهم الظلّ في تلك الصحراء (1)، مع أنّه لا منافاة

بين التفاسير المذكورة أعلاه.

نعم، ثم يضيف تعالى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وقد احتمل بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية أنّ الجملة المذكورة، إشارة إلى الهداية الإلهيّة لذي القرنين في برامجه ومساعيه (2).


1- تفسير في ظلال القرآن، والفخر الرازي في التفسير الكبير، ذيل الآية.
2- الميزان، ج 13، ص 391.

ص: 178

كيف بُنِيَ سدّ ذي القرنين؟

ثم يستمر القرآن الكريم في هذا البحث قائلًا: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً* فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً* قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.

ص: 179

شرح وتفسير:

تشير الآيات المذكورة أعلاه إلى أحد أسفار ذي القرنين، حيث تقول: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً غير الذين شاهدهم في الشرق والغرب وكانوا يعيشون في مستوى متدنّ من الحضارة، لأنّ اللغة إحدى أوضح علائم الحضارة الإنسانية.

كما احتمل البعض الآخر أنّ المقصود من جملة لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ ليس بمعنى أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات المعروفة آنذاك، بل لم يكونوا يدركون مضمونها، أي كانوا متخلفين من الناحية الفكرية.

أمّا عن مكان ذينك الجبلين، فإننا كسائر الأبعاد التاريخية والجغرافية لهذه القصّة سوف نبحث فيها في نهاية التفسير.

كان هؤلاء القوم يعانون من أعداء سفاكين للدماء ومتوحشين يطلق عليهم يأجوج ومأجوج فاستغلوا في الأثناء فرصة قدوم ذي القرنين الذي يتمتع بقدرات وإمكانات عظيمة والتجؤوا إليه قائلين: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا وفيه إشارة إلى أنّه على الرغم من عدم فهمهم لغة ذي القرنين، فإنّهم استطاعوا على الأقل عن طريق الإشارات والعلامات أو عبر لغة ناقصة لا يعتدّ بها نقل ما يريدون إليه.

كما أنّ هناك احتمالًا آخر بأنّ التفاهم بينهم وبين ذي القرنين جرى من خلال المترجمين أو عن طريق الإلهام الإلهي كحديث بعض الطيور مع النبي سليمان عليه السلام.

على أي حال، يستفاد من هذه الجملة أنّ هؤلاء القوم كانوا يتمتعون بإمكانات اقتصادية جيدة، ولكنّهم كانوا عاجزين من حيث الصناعة والفكر والتخطيط، فتقبّلوا أن يتحملوا أعباء بناء هذا السد، بشرط أن يتكفل ذو القرنين بنفسه مشروع تخطيطه وبنائه.

وسوف نتحدّث عن يأجوج ومأجوج في نهاية هذا البحث بإذن الله تعالى.

أمّا ذو القرنين، فاستجاب لطلبهم قائلًا: قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً والردم في الأصل بمعنى مل ء الصدوع بالحجارة ولكن معناه توسع ليشمل كل سدّ، بل ليشمل حتى ترقيع الملابس أيضاً.

ويرى جمع من المفسّرين أنّ الردم تطلق على السد المحكم والقوي (1)، وبناء على هذا التفسير فقد وعدهم ذو القرنين ببناء شي ء يفوق توقعاتهم كما ينبغي أن نوضح أنّ (السَّدَّ) و (السُّدْ) لهما نفس المعنى أي الحاجز الذي يفصل بين شيئين،

ولكن، بناءً على قول الراغب الأصفهاني في (المفردات) فقد ميز البعض بينهما فخصّصوا الأوّل لما يصنعه الإنسان، والثاني للحواجز الطبيعية.

ثم أمر ذو القرنين بما يلي: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي القطع الضخمة والكبيرة من الحديد، وعندما هيئت قطع الحديد تلك، أمر بأن تركم فوق بعضها حتى تملأ ما بين الجبلين (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) والصدف هنا معنى (سفح الجبل)، ومن هذا التعبير يتضح أنّه كان يوجد شقّ وخرق بين سفحي الجبل يدخل منه يأجوج ومأجوج فقرر ذو القرنين أن يملأه.

أمّا الأمر الثالث الذي أصدره ذو القرنين فكان ما يلي:

قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً حيث أمرهم بإحضار المواد القابلة للاحتراق كالحطب وغيرها، وجعلها على جانبي السدّ، ثم أمرهم أن ينفخوا فيها لتحمرّ ناراً بالوسائل التي عندهم، وفي الحقيقة فقد أراد بهذا الأسلوب أن تلتحم قطع الحديد بعضها ببعض، ويتحوّل السد إلى كتلة واحدة، وهو ما يقومون به هذه الأيّام بواسطة اللحام عبر تحمية قطع الحديد بالحرارة ما تذوب وتلتحم بعضها ببعض.

ثم أصدر في النهاية أمراً: قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً وبهذا الشكل غطّى ذلك السد الحديدي بطبقة من النحاس ليحميه من اختراق الهواء والتآكل والتصدع! وقد ذكربعض المفسّرين أنّ العلم الحديث أثبت أنّه إذا تمّت إضافة مقدار من النحاس إلى الحديد فإنّ ذلك يزيد من مقاومته، ولإدراكه هذه الحقيقة قام ذو القرنين بهذه الخطوة.


1- الآلوسي في روح المعاني، والفيض الكاشاني في تفسير الصافي، والفخر الرازي في التفسير الكبير.

ص: 180

المشهور في معنى (القطر) أنّه النحاس المذاب، ولكن فسّر بعض المفسّرين ذلك بالرصاص المذاب وهو خلاف المعروف.

وقد تمخض عن إنجاز بناء هذا السدّ القوي والمحكم، عدم تمكّن يأجوج ومأجوج من اختراقه أو إيجاد ثقب فيه للنفاذ عبره، يقول تعالى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (1) في هذه اللحظة من تحقيق الإنجازات الكبرى يلجأ

كثير من المستكبرين إلى المباهاة، وتعظيم النفس والامتنان على الآخرين، ولكن ذا القرنين بعد قيامه بهذا العمل العظيم، قال في منتهى الأدب أمام الله ما يلي: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي لأنّه كان رجلًا إلهياً.

فقد أراد أن يقول: كل ما أمتلكه من علم ومعرفة لأقوم بهذه الخطوة الهامة، من الله عزّ وجلّ، وأنّ ما أحظى به من قدرة بيانية وتأثير فمن الله عزّ وجلّ أيضاً.

وكذلك، فإنّ كل تلك المواد اللازمة لبناء السد التي جعلت تحت تصرفي إنّما كانت ببركة الرحمة الإلهيّة الواسعة، ولا أدّعي شيئاً لنفسي يدعوني للاعتزاز به، ولم أعمل شيئاً مهماً لأمنّ على عباد الله فكل ما عملته من الله عزّ وجل.

ثم أضاف جملة أخرى: ولا تظنوا أنّ هذا السد خالد وأبدي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّاً وفي كلامه هذا أشار ذو القرنين إلى مسألة فناء الدنيا وانهيار هذا السد على أعتاب يوم القيامة.

أمّا بعض المفسّرين فقد ذكروا أنّ ذلك الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي الذي سوف يحققه البشر بحيث لن يبقى سد غير قابل للعبور، إذ سوف يتم اختراع وسائل الطيران كالطائرات والحوامات التي لا يمكن أن تقف أمامها السدود، ولكن من البعيد أن يكون هذا التفسير هو المطلوب.


1- اسطاعوا: أصلها من (استطاعوا) خذفت تاء باب الاستفعال.

ص: 181

الدروس المستفادة من قصة ذي القرنين:

سنبحث فيما بعد بإذنه تعالى حول هوية ذي القرنين، وكيف قام بأسفاره إلى شرق الأرض وغربها؟ وأين بنى السدّ؟ وأمثال ذلك.

ولكن بغضِّ النظر عن الأبعاد التاريخية والتطبيقية لهذه القصّة فإنّ لها بشكل عام نقاطاً تعليمية ودروساً كثيرة، يبنغي الاهتمام بها أكثر من أي شي ء آخر في هذه القصّة وهي في الحقيقة الهدف الأصلي لذكرها في القرآن الكريم:

1. إنّ أوّل درس نتعلمه من هذه القصّة أنّه لا يمكن لأي عمل في الدنيا أن ينجز

ص: 182

دون إعداد الإمكانات اللازمة له، لذا وهب الله عزّ وجلّ لذي القرنين أسباب تقدمه وانتصاره يقول تعالى: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ء سَبَباً وقد استفاد ذو القرنين من هذه الأسباب بشكل جيد، يقول تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَباً لذا فإنّ من يتوقع النصر بدون إعداد الإمكانات والأسباب اللازمة له، لن ينتصر حتى لو كان ذا القرنين نفسه.

2. إنّ غروب الشمس في العين الآسنة، كما وردت في الآيات التي تحكي قصّة ذي القرنين، وإن كان انخداعاً بصرياً، فإنّه يدلّ على أنّ من الممكن للشمس العظيمة أن تغطّى بواسطة عين آسنة موحلة، كما أنّ الإنسان العظيم والشخصية عالية المقام يمكن أن تسقط سقوطاً كلياً على أثر زلة صغيرة، آفلة في مشاهد الغروب.

3. لا يمكن لأية دولة أن تنتصر بدون أن تقوم بالخطوات اللازمة لتشجيع من يقومون بخدمتها ومعاقبة من يخطئون بحقها، وهذا هو الأصل الذي استفاد منه ذو القرنين، وفي هذا المعنى قال علي عليه السلامفي عهده المعروف لمالك الأشتر الذي يعتبر دستور عمل جامع لإدارة الدول:

وَلَا يَكُونَنَّ الُمحْسِنُ وَالْمُسِي ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لِاهْلِ الْاحْسَانِ فِي الْاحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لِاهْلِ الْاسَاءَةِ عَلَى الْاسَاءَةِ! وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ

(1).

4. إنّ التكليف بما لا يطاق لا يناسب أبداً حكومة العدل الإلهي، لذا فإنّ ذي القرنين بعد أن صرّح بأنّه سوف يعاقب الظالمين ويكافئ المحسنين فإنّه اقترح عليهم برنامجاً سهلًا ميَّسراً يستطيعون تطبيقه بدافع من الرغبة والشوق والمحبّة، فقال: (وسنقول له من أمرنا يسراً).

5. لا يمكن لدولة واسعة أن تغض الطرف عن التنوع الموجود بين مكوناتها القومية والاختلافات في طرق الحياة والظروف التي يمرون بها، ولهذا فإنّ ذا القرنين الذي كان صاحب حكومة إلهية، أثناء تعامله مع الأقوام المختلفة ممن يتمتعون

بطرق عيش مخصوصة، كان يتصرّف معهم بما يتناسب مع أحوالهم وظروفهم، واستطاع بذلك أن يحويهم جميعاً ويستوعبهم.

6. إنّ ذا القرنين لم يستخفّ بقوم وصفهم القرآن الكريم بقوله: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا، بل عمل بكل وسيلة ممكنة أن يستمع إلى حاجاتهم ومطالبهم ليرفعها، واستطاع نتيجة ذلك أن يبني بينهم وبين أعدائهم الأشداء سداً محكماً، مع أنّه كان من الممكن له أن يعتبر مثل هؤلاء الأقوام المتخلّفين عالة على أية دولة، إلّا أنّه عمل على إصلاح أمورهم وشؤونهم بدون أن يتوقع منهم مقابلًا، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلاميقول:

إسماعُ الأَصمِّ مِنْ غَيرِ تَضجُّر صَدقةً هَنيئَةً

(2).

7. الأمن أوّل وأهم شرط للحياة الاجتماعية السليمة، ولهذا عمل ذو القرنين على توفير هذا الأمر للقوم الذين كانوا عرضة للتهديد، وتحمل القيام بأكثر الأعمال صعوبة ومشقة عبر إنشاء واحد من أقوى السدود لردع المفسدين فأصبح مضرب المثل في التاريخ ورمزاً للاستحكام والدوام والبقاء حيث يقال: (سدّ مثل سد الاسكندر) (وإن كان الاسكندر غير ذي القرنين؟).

فإذا لم يتمّ الوقوف أمام المفسدين بحزم من خلال السدود القوية المحكمة فلا يمكن للمجتمع أن ينال السعادة، لذا كان أول طلب لإبراهيم عليه السلاممن الله عزّ وجلّ أثناء بناء الكعبة نعمة الأمن لتلك البقعة المباركة فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً (3)، ولهذا وضع الفقه الإسلامي أشد العقوبات لأولئك الأشخاص الذين يعرضون أمن المجتمع للخطر (4).

8. إنّ الدرس الآخر الذي يمكن أن يتعلَّمه الإنسان من هذه الحادثة التاريخية أن من يتعرضون للمصائب والمشاكل يجب أن يساهموا في رفعها بأنفسهم، لذا عندما

شكا مجموعة من القوم إلى ذي القرنين حملات الأقوام البربرية الوحشية، فإنّ أوّل ما أمر به أن يحضروا قطع الحديد، ثم أمرهم أن ينقخوا النار في أطراف السد، ليلتحم بعضه ببعض، ومن ثم أمرهم أن يعدّوا النحاس المذاب لتغطية ذلك الحديد بطبقة منه.


1- نهج البلاغة، الكتاب 53.
2- سفينة البحار، ج 2، لفظ صمم
3- سورة إبراهيم، الآية 35.
4- انظر التفسير الأمثل في تفسير سورة المائدة، الآية 33.

ص: 183

لأنّ القاعدة تقضي أنّ العمل الذي يقوم به أصحابه لرفع مشكلة يعانون منها سوف يكون مصيره التقدم، كما أنّه يساعدهم على إظهار إمكاناتهم ومواهبهم وطاقاتهم، وهم بالتالي سيقدِّرون نتيجة عملهم الذي قاموا به وسيسعون في الحفاظ على ثماره وإنجازاته، لما تحملوا في سبيل ذلك من المصائب والمشقّات.

وبذلك يتضح أنّ أُمّة متخلفة يمكنها بالإدارة والتخطيط السليمين أن تنجز مثل هذا العمل المهم والمدهش للعقول.

9. ينبغي للقائد الإلهي ألّا يهتم بالمال والماديات، وأن يقتنع بما جعله الله عزّ وجلّ بين يديه، لذا نرى ذا القرنين خلافاً لسيرة الملوك والسلاطين الجبابرة ممن يحرصون ويولعون بكنز الأموال وجمعها من هنا وهناك، يرفض الأموال عندما تعرض عليه، وهذا نموذج للقادة الإلهيين الذين يقولون كما قال ذو القرنين: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ.

ونقرأ في القرآن الكريم مراراً في قصص الأنبياء أنّ أحد أهم أدبياتهم كان يتمثّل بالقول: إنّهم لا يريدون أجراً ومكافأة ومالًا مقابل دعوتهم، حيث تكرّر مثل هذه الحالات في القرآن الكريم إحدى عشر مرة من رسول الله صلى الله عليه وآله والأنبياء السابقين، وأحياناً كانوا يعبرون عن ذلك بالقول السابق مضافاً إليه بأنّ أجرنا على الله فقط.

وأحياناً نرى في القرآن الكريم جعل محبّة أهل بيت النبي عليهم السلام مقابلًا للدعوة وأجراً عليه، لأنّ هؤلاء سيكونون قاعدة للقيادة المستقبلية، يقول تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1).

10. إتقان العمل درس آخر من هذه القصة، فقد استعمل ذو القرنين في بناء السد قطعاً من الحديد كبيرة، ونفخ فيها النار حتى تلتحم تلك القطع بعضها ببعض، وتذوب، ثم غّطاها بطبقة من النحاس حتى يزيد عمر هذا السد وتطول مدّة صلاحيته، مع ضامن مقاومته لعوامل الرياح والرطوبة والمطر، ويمنع تآكلها وتهالكها.

11. إنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة والتمكن والنفوذ لا ينبغي له أبداً أن يغّتر بنفسه، وهذا هو الدرس الآخر الذي علّمه ذو القرنين للجميع، إذ بعد إتمامه بناء السد نراه يقول:

(هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) لأنّه كان يستند على تلك القدرة الإلهيّة في جميع المواقف.

وعندما اقترِح عليه دعم مالي ردّ عليهم: (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، وفي النهاية قبل أن ينهي إنجاز هذا العمل العظيم، فإنّه يتحدّث عن عدم خلود هذا السد في إشارة إلى أنّ الخلود لله عزّ وجلّ وفي هذا الأمر أيضاً يستند في كلامه إلى إيمانه وعقيدته بالوعد الإلهي.

. 12 كل شي ء زائل إلّا وجهه ومصير أقوى الصروح في هذه الدنيا الاختلال والإنهيار والدمار والزوال، حتى ولو كانت مصفحة بالحديد والفولاذ، وهذا آخر درس يمكن استفادته من هذه القصّة، ذلك الدرس لأولئك الذين يعتبرون هذه الدنيا خالدة بشكل عملي، حيث يسعون في جمع المال وكسب الجاه بدون قيد أو شرط، وبدرجة عالية من الحرص وكأنّهم لا يؤمنون أن هناك موتاً وفناءً، فإن كانت الشمس العظيمة التي لا يمكن مقارنتها بسد ذي القرنين تفنى وتطفأ وتزول، وكذلك الجبال الراسيات تتلاشى وتذروها الريح، فكيف بالإنسان الضعيف أمام هؤلاء جميعاً!!

ألا يعتبر التفكير في هذه الحقيقة كافياً لردع المستبدين والاستبداد!


1- سورة الشورى، الآية 23.

ص: 184

هوية ذي القرنين:

كثر الحديث بين المفسِّرين في هوية ذي القرنين الواردة في القرآن الكريم من منظار التاريخ، وعلى من تنطبق من الشخصيات التاريخية؟

حيث اختلفت وجهات نظر هم في ذلك، ويمكن اختزال أهمّها في ثلاث نظريات هي:

النظرية الأولى:

يعتقد البعض أنّه ليس إلّا الاسكندر المقدوني، لذا سماه البعض الاسكندر ذا القرنين، ويذكرون أنّه سيطر بعد موت أبيه على بلاد الروم والمغرب ومصر، وبنى مدينة الاسكندرية، ثم سيطر على الشام وبيت المقدس، ومن هناك توجه نحو أرمينية حيث فتح في طريقه العراق، وثم مرض في مدينة (زور) ومات فيها، ولم يتجاوز عمره، على قول البعض، ستة وثلاثين عاماً، ونقل جثمانه إلى الاسكندرية حيث دفن هناك (1).


1- وقد ورد هذا المطلب في (تفسير الفخر الرازي) في ذيل الآيات مورد البحث، وكذلك الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 278، ويعتقد البعض أنّ أوّل من طرح هذه النظرية هو الشيخ أبو علي سينا في كتابه (الشفاء).

ص: 185

النظرية الثانية:

يعتقد جمع من المؤرخين أنّ ذا القرنين هو أحد ملوك اليمن، وكان يطلق على ملوكهم لقب (تبّع) وجمعهم (تتابعة)، وممن دافع عن هذه النظرية (الأصمعي) في (تاريخ العرب قبل الإسلام) و (ابن هشام) في تاريخه المعروف باسم (السيرة) و (أبو الريحان البيروني) في (الآثار الباقية).

بل نلمح في أشعار الحميريين وهم أقوام من اليمن وبعض شعراء الجاهلية تفاخرهم بذي القرنين (1).

بناء على هذه الفرضية فإنّ ذا القرنين بنى السد المعروف ب- (مأرب).


1- الميزان، ج 13، ص 414.

ص: 186

النظرية الثالثة:

وتعتبر من أحدث النظريات في هذا المجال وقد طرحه العالم الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي كان وزير الثقافة في الهند، حيث أورد نظريته في كتابه التحقيقي (1)، وبناء عليها فإنّ ذاالقرنين هو نفسه كوروش الكبير الملك الهخامنشي.

وبما أنّ النظريتين الأولى والثانية لا تستندان إلى وثيقة تاريخية معروفة تقريباً، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الاسكندر المقدوني لم يكن يتصف بالصفات التي أوردها القرآن الكريم لذي القرنين، ولم يتمتع بها أي من ملوك اليمن.

كما أنّ الاسكندر المقدوني لم يبن سداً معروفاً، أمّا سدّ مأرب في اليمن فهو سدٌّ لا يتوافق مع سدّ ذي القرنين كما ورد في القرآن الكريم الذي بني من الحديد والنحاس لمنع حملات الأقوام البربرية الوحشية، في حين أنّ سد مأرب كان من الصروح الرائجة الذي أنشأ بهدف خزن الماء خلفه، ومنع طغيان الماء وفيضانه وقد ورد ذكره مفصلًا في سورة سبأ.

لذلك فإننا سوف نركز بحثنا حول النظرية الثالثة، وهنا من اللازم علينا أن نلفت الانتباه إلى عدّة نقاط هي:

أ) أوّل ما يلفت النظر في هذا الموضوع هذا السؤال: لِمَ سُمِيَّ ذو القرنين بهذا الاسم؟

يعتقد البعض أنّه أطلق عليه ذلك لأنّه وصل إلى شرق العالم وغربه، ويعبِّر العرب عن ذلك بقرني الشمس. ويرى البعض الآخر أنّ السبب يعود لأنّه حكم قرنين من الزمان، وقد ظهرت نظريات مختلفة حول مقدار القرن.

ويقول البعض الآخر إنّه كان يوجد على جانبي رأسه نتوءان خاصان سمي بهما ذا القرنين.

وأخيراً يعتقد البعض أنّه كان يضع على رأسه تاجاً على جانبيه قرنان.


1- وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفارسية وسمي باسم ذوالقرنين أو كوروش الكبير، وكثير من المؤرخين المعاصرين أوردوا هذه النظرية في كتبهم بلحن يغلب عليه التصديق.

ص: 187

وهناك آراء أخرى يؤدي ذكرها إلى إطالة البحث، وسوف نلاحظ أن مبتكر النظرية الثالثة أي (أبو الكلام آزاد) استفاد من هذا اللقب كثيراً في إثبات نظريته.

ب) يستفاد من القرآن الكريم جيداً أنّ ذا القرنين كان يتمتع بصفات استثنائية منها:

1. إنّ الله هيّأ أسباب النصر بين يديه.

2. إنّه قام بثلاث حملات هامة أولاها نحو الغرب، والثانية نحو الشرق، والأخيرة نحو منطقة تضمّ مضيقاً جبلياً، وصادف أثناء أسفاره أقواماً متعددين، ورد ذكر صفاتهم في تفسير الآيات.

3. إنّ ذا القرنين كان مؤمناً موحِّداً وشفيقاً ورحيماً، لم ينحرف عن جادة العدل والصواب، فكان مؤيَّداً بالألطاف الإلهيّة الخاصة، وكان عوناً للمحسنين وخصماً للظالمين والمستبدين، ولم يكن متعلقاً بأي مال أو ثروة في الدنيا.

4. كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر.

5. أشاد أعظم وأهم السدود، واستخدم في بنائه الحديد والنحاس بدل الحجارة واللبن، وكل ما استخدم من مواد للبناء كان منبثقاً عن هذه المواد، وكان هدفه من بناء هذا السد مساعدة قوم مستضعفين في مقابل ظلم يأجوج ومأجوج.

كان اسمه قبل نزول القرآن معروفاً بين مجموعة من الأقوام والناس، ولهذا سألت قريش أو اليهود رسول الله صلى الله عليه وآله عنه كما ذكر القرآن الكريم: يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ).

ولكن ليس هناك ما يدلّ صراحة في القرآن الكريم على أنّه كان نبيّاً، مع أنّ بعض التعبيرات القرآنية تُشعِر بذلك كما مرّ في تفسير الآيات السابقة.

وقد نقل في كثير من الروايات الإسلاميّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّه لم يكن نبيّاً، بل كان عبداً صالحاً (1).

ج) أصل القول الثالث في أنّ ذا القرنين هو كوروش الكبير قائم على مبدأين:

الأول: إنّ من سأل رسول الله صلى الله عليه وآله حول هذا الموضوع، بناء على الروايات التي جاءت في شأن نزول هذه الآيات، كانوا يهوداً أو كانوا من قريش بتحريض من اليهود، ولهذا يجب البحث عن أصل هذا الموضوع في كتب اليهود، ومن كتبهم المعروفة كتاب (دانيال) حيث نقرأ في الفصل الثامن:

(حينما ملك (بل شصّر) عُرضت لي وأنا دانيال رؤيا بعد الرؤيا الأولى التي شاهدتها، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام) فقد رأيت وأنا في المنام بأنّي على مقربة من نهر (أولاي)، وأن كبشاً يقف قرب النهر وكان له قرنان طويلان، ووجدته يضرب بقرنيه غرباً وشمالًا وجنوباً، ولم يتقدم أحدٌ أمامه، ولأنّه لم يكن يوجد أمامه أحد، ولهذا فإنّه كان يتصرف وفقاً لما يريد، وكان يكبر) (2).

وبعد ذلك نقل في هذا الكتاب عن دانيال أنّه تجلّى جبرئيل له، وعبَّر رؤياه كما يلي:

إنّ الكبش ذا القرنين الذي رأيته فإنّه من ملوك المدائن وفارس أو ملوك ماد وفارس

. وقد استبشر اليهود من رؤيا دانيال أنّ أسرهم سوف ينتهي مع ظهور أحد ملوك ماد وفارس وانتصاره على ملوك (بابل) وسوف يؤدي ذلك إلى تحريرهم من قبضة البابليين.

ولم تمضِ مدّة حتى ظهر كوروش على مسرح الحكم في إيران، وسيطر على بلاد ماد وفارس، وشكّل ملكاً عظيماً امتدّ، كما ورد في رؤيا دانيال، إلى الغرب والشرق والجنوب، مثل قرني ذلك الكبش في ثلاث جهات العالم بالفتوحات الكبيرة، وقد حرر اليهود وسمح بعودتهم إلى فلسطين.

واللافت أننا نقرأ في (التوراة) من كتاب (اشعيا) الفصل 44 الرقم 28 ما يلي:


1- تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 294- 295.
2- كتاب دانيال، الفصل الثاني من العبارات 1- 4.

ص: 188

عندها يقول حول كوروش: (إنّه كان راعيّ ويعمل بكامل مشيئتي وقال لأورشليم سوف تعمرين).

ممّا يلفت الانتباه أنّه يعبر في بعض تعابير التوراة، عن كوروش بعقاب المشرق، والرجل الحكيم والذي يدعى من مكان بعيد (1).

الثاني: في القرن التاسع عشر الميلادي وقرب مدينة (اصطخر) بجوار نهر (مورغاب)، تم اكتشاف تمثال ل- (كوروش) بطول إنسان كامل، حيث يظهر وقد برز منه جناحان مثل جناحي العقاب، وعلى رأسه تاج له قرنان كقرني الكبش.

ويعتبر هذا التمثال نموذجاً قيماً لفن النحت القديم، جلب اهتمام العلماء، بحيث قامت مجموعة من العلماء الألمان بالسفر إلى إيران بغرض معاينة هذا التمثال.

وبتطبيق ما ذكر من علامات هذا التمثال مع ما ورد في التوراة، يصبح احتمال ذلك العالم في نظريته قوية، بحيث يعلم مصدر استفادته إطلاق اسم كوروش على ذي القرنين، كما يعلم سبب وجود أجنحة كأجنحة العقاب لتمثال كوروش.

وهكذا فقد أصبح من المسلم عند مجموعة من العلماء، حقيقة الهوية التاريخية لذي القرنين عبر هذه الوسيلة، وما يؤيد هذه النظرية هي الصفات الأخلاقية التي سجلت لكوروش في التاريخ.

يقول المؤرخ اليوناني (هيرودوت) ما يلي:

لقد أمر كوروش ألّا تسل السيوف إلّا في وجه المقاتلين، وكل مقاتل عدو ينزل قناته ويرمي به لا يقتل، وقد أطاع جيش كوروش أوامره، بحيث لم يشعر عامة الشعب بآلام الحرب ومصائبه

وكذلك كتب (هيرودوت) حوله: (لقد كان كوروش ملكاً كريماً سخياً وعطوفاً، لم يكن حريصاً على جمع الأموال كباقي الملوك، بل كان يحب الأمور التي تحظى بالخير الوفير).

وكذلك يكتب مؤرخ آخر (ذي نوفن) ما يلي: (كان كوروش ملكاً عاقلًا وعطوفاً، جمعت فيه أبهة الملوك وفضائل الحكماء، صاحب همة عالية وشخصية


1- كتاب أشعيا، الفصل 46، الرقم 11.

ص: 189

آسرة، شعاره خدمة الإنسانية، وخلقه نشر العدل، قد حلّ التواضع والسماحة في وجوده محل الكبر العجب).

ومن اللافت هنا أنّ المؤرخين الذين وصفوا كوروش بهذا الوصف كانوا من المؤرخين الأغراب لا من أبناء وطن ذلك الملك، حيث كانوا من أهل اليونان، ونعلم أنّهم لم يكونوا ينظرون بعين الصداقة إلى كوروش لفتحه (ليديا) الذي يعد هزيمة كبرى لشعب اليونان.

ويقول مؤيدو هذه الفكرة أنّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول ذي القرنين تنطبق مع الأوصاف المذكورة لكوروش.

وأكثر من ذلك فقد كان لكوروش أسفار إلى شرق العالم وغربه وشماله، تمّت الإشارة إليها مفصلًا في سيرته ويمكن تطبيق الأسفار الثلاثة لذي القرنين التي وردت في القرآن الكريم وهذه الأسفار:

أول حملة لكوروش كانت على بلاد (ليديا) في القسم الشمالي من آسيا الصغرى، وكانت هذه البلاد تقع في الناحية الغربية بالنسبة إلى مركز دولة كوروش.

وعندما نضع خريطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا نلاحظ القسم الأعظم من الساحل غارقاً في خلجان صغيرة، لاسيما في القرب من (أزمير) الذي يأخذ الخليج فيه شكل عين.

ويذكر القرآن الكريم بأنّ ذا القرنين في سفره الغربي أحس بأنّ الشمس تغرق في عين حمئة، وهذا المنظر هو نفسه الذي رآه كوروش أثناء غروب قرص الشمس في الخلجان الساحلية.

أمّا الحملة الثانية لكوروش فكانت إلى الجهة الشرقية، حيث يقول هيرودوت:

ص: 190

(تم الهجوم الشرقي لكوروش بعد فتح (ليديا) لاسيما بعد عصيان وتمرد بعض القبائل البربرية البدائية التي دفعت كوروش للقيام بهذه الحملة).

حيث يقول القرآن الكريم: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْم لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً.

أمّا الحملة الثالثة لكوروش فكانت باتجاه الشمال نحو جبال القوقاز، حيث بلغ مضيقاً بين جبلين شيّد هناك سداً محكماً لمنع هجوم الأقوام البدائية البربرية بطلب من الأقوام التي كانت تعيش مقابل هذا المضيق.

ويطلق على هذا المضيق في عصرنا الحاضر باسم (مضيق داريال)، حيث تظهره الخرائط بين (فلادي قفقاز) و (تفليس)، حيث يرتفع في ذلك المكان حتى الآن جدار حديدي، هو نفسه ذلك السد الذي شيّده كوروش، لأنّ أوصافه تنطبق بشكل كامل على الصفات التي ذكرها القرآن الكريم للسد الذي بناه ذو القرنين.

تلك كانت خلاصة ما يقوِّي النظرية الثالثة (1).

على الرغم من وجود نقاط مبهمة في هذه النظرية، ولكن حالياً يمكن أن تكون هذه النظرية الأفضل فيما يتعلق بانطباق شخصية ذي القرنين على إحدى الشخصيات التاريخية المعروفة.


1- لمزيد من الاطلاع انظر: كتاب (ذوالقرنين أو كوروش الكبير)، وكذلك كتاب (ثقافة القصص القرآنية).

ص: 191

مكان سدّ ذي القرنين:

على الرغم من أنّ البعض يميل إلى انطباق هذا السد مع سور الصين العظيم الباقي حتى الآن، والذي يبلغ طوله مئات الكيلو مترات، ولكن من الواضح أنّ سور الصين لم يبْنَ من الحديد والنحاس، ولا يقع في مضيق جبلي، بل هو جدار بني من مواد البناء المعروفة، وكما قلنا فإنّ طوله مئات الكيلومترات وهو قائم حتى الآن.

يصرّ البعض الآخر أنّه نفس سد مأرب الموجود في أرض اليمن، في حين أنّ سد مأرب وإن كان قد بني في مضيق جبلي، إلّا أنّه بني لمنع طغيان الماء وفيضانه وبغرض تخزين الماء، ومواد بنائه ليست من الحديد والنحاس.

ولكن بناء على شهادة العلماء، كما أشرنا أعلاه، فإنّه توجد جبال في أرض

القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود تشكل جداراً يفصل الشمال عن الجنوب، ويوجد بينها مضيق واحد معروف ب- (مضيق داريال) ويرتفع، لحدِّ الآن، في ذلك المضيق جدار حديدي تاريخي قديم، لذا يعتقد الكثيرون أن (ذا القرنين) بنى ذلك السد هناك، ومن الطريف أنّه يوجد نهر قريب من ذلك السد باسم (نهر سائرس) بمعنى (كوروش) حيث كان اليونان يطلقون على كوروش اسم (سائرس).

وتطلق الآثار الأرمنية القديمة على هذا الحائط اسم (بهاك كورائي) بمعنى (مضيق كوروش) أو (معبد كوروش) وهذه وثيقة تدل على أنّ باني هذا السدكان (كوروش) (1).


1- لمزيد من الاطلاع انظر: كتاب (ذوالقرنين أو كوروش الكبير)، وكذلك كتاب (ثقافة القصص القرآنية).

ص: 192

كلام حول يأجوج ومأجوج:

ذكر القرآن الكريم (يأجوج ومأجوج) في سورتين ضمن آيات منها التي ذكرناها ببحثنا، والأخرى الآية (96) من سورة الأنبياء.

وتشهد الآيات القرآنية بشكل جيد أنّ هذين الاسمين مرتبطان بقبيلتين بربريتين سفّاكتين للدماء، كانت تضايقان بشدّة سكان النواحي والأطراف.

وقد أطلق عليهما في التوراة في كتاب (حزقيل)، في الفصلين (38، 39)، وفي كتاب (رؤيا يوحنا) الفصل 20 باسم (كوك ومأكوك) حيث عرّب باسم (يأجوج ومأجوج).

وبناء على قول المفسِّر الكبير العلّامة الطباطبائي في (الميزان) فإنّه يستفاد من مجموع ما ذكر في التوراة أنّ (مأجوج) أو (يأجوج ومأجوج) كانوا قوماً أو أقواماً كبيرة، تقطن في أقصى نقاط شمال آسيا وكانوا محاربين ويقومون بالغارات (1).

ويعتقد البعض أنّهما كلمتان عبريتان انتقلتا في الأصل من اللغة اليونانية إلى العبرية، وتلفظان في اللغة اليونانية (كاك ومأكاك) حيث تم نقلها إلى اللغات الأوربية

الأخرى بهذا اللفظ.

وهناك دلائل تاريخية كثيرة على أنّه توجد في المنطقة الشمالية الشرقية من الكرة الأرضية من نواحي (منغوليا) منطقة تعتبر منبعاً فوّاراً للبشر، حيث إنّ أهل هذه المنطقة كانوا يتوالدون ويتناسلون بسرعة، وبعد تكاثرهم وزيادتهم كانوا يتجهون نحو الشرق أو الجنوب، مغطّين تلك المناطق كالسيل الجرّار، وكانوا يتخذون تلك المناطق سكناً لهم بالتدريج.

وقد كانت هذه الحركة التي تشبه السيل من هؤلاء الأقوام سبباً لظهور مراحل ومقاطع تاريخية مختلفة، بحيث إنّ إحداها بدأت بهجوم هذه القبائل البربرية في القرن الرابع الميلادي بقيادة (آتيلا) والتي أدت إلى القضاء على حضارة الإمبراطورية الرومانية.


1- الميزان، ج 13، ص 411.

ص: 193

وأمّا المرحلة التاريخية الأخرى، والتي تعتبر آخر مرحلة لهجمات تلك الأقوام فتمّت في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة (جنكيزخان) الذي قام بحملته على الدول الإسلاميّة والعربية ودمّر الكثير من المدن منها (بغداد).

وفي عصر (كوروش) كذلك تمّت هجمات من قبلهم حوالي سنة 500 قبل الميلاد، ولكن في هذه المرحلة كانت قد ظهرت حكومة ماد وفارس المتحدتان، ووقفت في وجههم وتغيرت الأوضاع، ونجت آسيا الغربية من هجمات هذه القبائل.

وبهذا نلاحظ أنّه من الأقرب للقبول بأن (يأجوج ومأجوج) كانتا من تلك القبائل البربرية التي طلب أهل القوقاز من كوروش أثناء سفره إلى تلك المنطقة، أن يقوم بمنع هجوم هؤلاء الأقوام عليهم، فقام كوروش المعروف بذي القرنين ببناء هذا السد (1).

والحمد لله ربّ العالمين


1- لمزيد من الاطلاع انظر: كتاب (ذوالقرنين أو كوروش الكبير)، وكذلك كتاب (ثقافة القصص القرآنية).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.